سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
تفاصيل تنشر لأول مرة حول الأيام الأخيرة من حياة الجنيرال الدليمي أقدم على ترحيل الإخوة بويركات إلى تازمامارت بعد أن أبلغوا الحسن الثاني ب«تحركاته» الغامضة
في أيامه الأخيرة، تغير الجنرال أحمد الدليمي كثيرا، كان يفقد هدوءه لأقل سبب، وكان يلوذ بعصيان نفسه حتى، فيصدر عنه كلام يغرفه من قاموس غير لائق. هل كان منشغلا بشيء يؤرقه إلى هذا الحد أم إنه أضاع الطريق التي كانت سالكة بين ضيعته الفسيحة في مشرع بلقصيري والأماكن التي كان يتردد عليها أكثر؟ فقد بدأت تأسره نزعة التخلص من كل شيء، الأصدقاء والخصوم المفترضين، على حد سواء. لم يستوعب الجنرال أحمد الدليمي، قائد المنطقة الجنوبية، فكرة استبعاده من المشاركة في آخر جولة مفاوضات سرية حول الصحراء، استضافتها باريس أواخر عام 1982، فقد سبق له أن شارك في كافة الجولات التي دارت في جنيفوبروكسيلوالجزائر وفاس، إلى جانب المستشار أحمد رضا اكديرة وشخصيات أقرب إلى القصر. كان الدليمي يعتبر نفسه مهندس جانب من تلك المفاوضات، من منطق أن فرض السيطرة العسكرية على الأقاليم الجنوبية في مواجهة الأعمال العدائية التي كان ينفذها مقاتلو جبهة البوليساريو، بدعم كبير من الجيش الجزائري وحلفاء بارزين في المعسكر الشرقي، أفسح المجال أمام المغرب كي يتفاوض مع المسؤولين الجزائريين من موقع قوي، عدا أنه كان مخولا له البحث في تفاصيل عسكرية ودفاعية، في حال طرحت على مائدة المفاوضات. منطق سياسي غير أن اختيار وزير الخارجية محمد بوستة، آنذاك، لإدارة جولة مفاوضات نهاية 1982 كان، في جوهره، يميل إلى تغليب البعد السياسي على المنطق العسكري في إدارة مفاوضات شاقة وعسيرة. كان الطالب الإبراهيمي أكثر تشددا في الجانب الجزائري، وكان ينزع إلى الإيحاء بأن دوره أكبر من أي رهان على أطياف الحكم الجديد في الجزائر، بعد رحيل الرئيس هواري بومدين. بيد أنه لم يكن وحيدا ينوب عن الطرف الجزائري، فقد كان يرافقه مسؤولون عسكريون وأمنيون، قد يختلون أحيانا إلى صفوف خلفية، لكن كلمتهم سيكون لها التأثير المطلوب في توجيه المفاوضات. وإذ يذكر أن الطالب الإبراهيمي كان أول مبعوث جزائري إلى المغرب، على عهد الرئيس هواري بومدين، بعد قطع علاقات البلدين الجارين في مارس 1976، فإنه لم يكن ميالا إلى مجاراة السياسيين المغاربة، إلا بالقدر الذي يتصوره يتماشى وخطة الرئيس الراحل، ثم أصبح بعد ذلك أكثر تشددا بالنظر إلى استراتيجية أي مفاوضات في ترفيع سقف المطالب. ويستطيع وزير الخارجية المغربي محمد بوستة، الذي تعرف عن قرب على ملامح شخصية الرجل وأدائه، أن يسعف الباحثين في تلمس مرحلة عاشها عن قرب، مما يعزز الاعتقاد بأن شهادات من عاشوا الأحداث ليست في مثل روايات العنعنة كما يقال لدى الفقهاء، الذين كانوا معنيين بتصحيح السند والروايات. على الرغم من أن مواقع المفاوضين الجزائريين تغيرت نتيجة تطورات الأوضاع الداخلية في الجزائر بعد مجيء الرئيس الشاذلي بن جديد، فإن الأمر كان مختلفا في المغرب. ولم يكن إخفاق عقد القمة، التي تقرر أن تجمع الملك الحسن الثاني والرئيس الجزائري هواري بومدين في بروكسيل، يلقي بظلاله إلا في الحالة التي غيب فيها أحمد الدليمي عن جولة المفاوضات الأخيرة وهو على قيد الحياة.
مفاوضات سرية الذين يعرفون الدليمي في تلك الفترة يؤكدون أنه لم يكن ليتقبل إبعاده عن المفاوضات إلا على مضض، فقد كان يعرف أن رهان المغرب على المفاوضات السرية مع الجزائر يرتدي أهمية بالغة، بالنظر إلى أولوية ملف الصحراء في كل الانشغالات المحورية للبلاد، ولعل ذلك كان في مقدمة الأسباب التي دفعته، في وقت سابق، إلى أن يجرب الانفتاح على ليبيا، لكونها الحليف المركزي الذي كان يزود البوليساريو بالمال والسلاح والعتاد. لم تتسرب معلومات كافية حول مجريات الحوار بين الجنرال أحمد الدليمي والمسؤولين الليبيين، غير أن معطيات، على قدر كبير من الأهمية، أبانت أن الملك الراحل الحسن الثاني لم يكن ينظر بارتياح إلى طروحات ليبية، وقتذاك، ولاسيما أنه لم يكن صاحب المبادرة هذه المرة، إلا أنه لم يمانع في تجريب أي وسيلة يمكن أن تقود إلى تكريس حياد الجماهيرية الليبية، ذلك أنه لم يكن مطمئنا إلى الزعيم العقيد معمر القذافي إلا بالقدر الذي يحقق إقرار مسافة بعيدة بينه وبين الدخول على خط الصراع في الصحراء. ربما أن ما زاد في تعميق آثار بعض الشكوك إزاء الموقف الليبي أنه كان مزاجيا قابلا للانقلاب حتى ضد قناعاته المعلنة في أي لحظة. وكان الحسن الثاني يقيس درجات التزام الرجل بخيار الوحدة على معيار الموقف من قضية الصحراء التي هي قضية وحدوية في جوهرها وطبيعتها ومآلها، ولاسيما أن كبار المسؤولين الليبيين كانوا يرغبون في فتح حوار مع الجنرال أحمد الدليمي، تحديدا، ودون أن يكون الحسن الثاني في صورة تطوراته. وثمة من يذهب إلى أن الملك الراحل أمر بقطع ذلك الحوار، على الرغم من أنه كان مهتما بجذب الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي إلى مربع أقرب إلى الحياد، من أجل وقف دعم بلاده لجبهة البوليساريو. وقد صرح بوضوح، لدى إبرام معاهدة الاتحاد العربي الإفريقي في وجدة، بأن هاجس حماية وحدة التراب المغربي من هجمات معادية كان السبب الرئيسي وراء إبرام تلك المعاهدة التي لم تعمر طويلا وجلبت على المغرب انتقادات حلفائه الغربيين، خصوصا الولاياتالمتحدةالأمريكية التي لم تستسغ قيام وحدة بين بلد حليف هو المغرب، وآخر تصنفه في خانة الأعداء هو ليبيا. مغاربة مع ليبيا ضد المغرب كيف، إذن، انتقلت ليبيا من معسكر إلى آخر؟ ولماذا كشف الراحل الحسن الثاني، يوما، بعد معاودة تطبيع العلاقات المغربية الليبية، أنه تعارك والعقيد الليبي، كل من موقعه، بهدف الإطاحة بنظام كلا البلدين، رغم بعد المسافات بينهما؟ الجواب عن ذلك أن البلدين معا احتضنا فصائل معارضة لكل منهما، بل إنهما شنا على بعضيهما حملات عنيفة عبر وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية. وفيما كان معارضون مغاربة يوجهون الحراب من إذاعة ليبية، كانت الإذاعة المغربية توجه معركة مماثلة، لعلها كانت من بين أسباب ظهور المذيع مصطفى العلوي، الذي كان يتلو بالدارجة المغربية ما تجود به تقارير تطبخ في مكان آخر. سيبدأ الرهان المغربي من قاعدة فك التحالف، الذي كان قائما بين الجزائر وليبيا، وفي مثل المواجهات التي كانت تعرفها الصحراء، إذ تدور رحى الحرب الطاحنة على مساحاتها الشاسعة، لم يتردد المغرب في دعم تونس في خلافها الحدودي مع ليبيا يوم اندلعت أحداث قفصة والجرف القاري. وقد تنبه الليبيون، في غضون ذلك، وبتزامن مع الخسائر التي تكبدوها في الحرب مع تشاد، إلى أن استمالة المغرب أفضل من معاداته. والحال أن النظرة ذاتها سادت مرجعية السياسة المغربية، إلى درجة أنه بعد انقشاع الغيوم في سماء البلدين، تحدث الحسن الثاني عن حقوق مشروعة لليبيين في نزاعهم الحدودي مع تشاد، الذي كانت فرنسا قد دخلت على خطه بكل قواها. بين ثنايا هذه الصراعات ذات الأبعاد السياسية والاستراتيجية، برز الجنرال أحمد الدليمي، باعتباره قائدا للمنطقة الجنوبية، وكذا رجل استخبارات يدير أكبر جهاز خارجي للبلاد. إقالات غامضة ولا شك أن وضعه هذا سمح له بإقالة المزيد من العلاقات المتشابكة، التي لم تكن خالية من مناطق الظل، ذلك أن الأسئلة المتوارية كانت تخص دلالات اختيار الجنرال أحمد الدليمي كمحاور لليبيين في تلك المرحلة، فهو قائد عسكري، لكن دوره لا يزيد، مثل كل العسكريين، على ترجمة الأهداف السياسية، أي الضغط في اتجاه الوصول إلى مفاوضات سياسية تحت غطاء البحث عن السلام. مصدر الأسئلة أن لا حرب نظامية كانت قائمة بين المغرب وليبيا، نتيجة بعد المسافة. هناك صراع سياسي استخدمت فيه وسائل شتى، ومن ذلك أن الليبيين حين رغبوا في امتزاج رأي الدليمي دفعوا بمسؤولين في الاستخبارات العسكرية الليبية، لهم علاقة بملف الصحراء، إلى جانب من تلك اللقاءات التي لم يكن أهل القرار المرجعي في المغرب، خصوصا الملك الراحل الحسن الثاني، بعيدين عنها. لكن هل المعلومات التي كانت تنتقل إليه بكل تفاصيلها هي كل ما كان يدور في السجالات السرية، أم إن المعطيات كان يجري تكييفها بالطريقة التي لا تبعث على الارتياب. وهنا يأتي الجواب المفصلي: لماذا أمر الملك الراحل بقطع أي شكل من أشكال الحوار مع ليبيا، قبل أن يتولى ذلك شخصيا في مرحلة لاحقة؟ منطق الأشياء يحيل على أن المفاوضات المغربية مع ليبيا كانت مطلوبة لأكثر من حساب، فيما نظيرتها مع الجزائر ظلت هي الأصل. غير أن مسارات هذه المفاوضات ستتقاطع، ففي الحالة الأولى كانت الترتيبات مغربية ليبية مائة في المائة، ولا يهم من هي الأطراف التي دفعت في اتجاهها وبأي حسابات، وفي الحالة الثانية اقتضى تعثر عدة جولات دخول أطراف عربية وأجنبية على الخط. لكن الرابط بين الحالتين هو أن الجنرال الدليمي كان من بين أبرز المشاركين في الجانب المغربي. ومن اللافت أن الأشواط اللاحقة لتلك المفاوضات على الصعيد الثنائي بين المغرب وليبيا ستتوج بإبرام معاهدة الاتحاد العربي الإفريقي بعد رحيله في يناير 1983، فيما القمة المغربية-الجزائرية التي رعتها العربية السعودية ستلتئم بدورها بعد غيابه. قد لا تكون لهذا الربط دلالات أكثر من الصدف بعض الشيء التي لا تسير دائما وفق أهواء الرجال، وقد يكون له تأثيره بعض الشيء، إن لم يكن على صعيد الانفراج في العلاقات المغربية-الجزائرية، فأقله على صعيد العلاقة مع ليبيا، إذ يمكن ملاحظة أن أدوار السياسيين اعتلت الواجهة بديلا عن نزعات العسكريين الذين يعرفون أكثر في الميادين الحربية. عناد الدليمي هذا مجرد افتراض تعوزه الأدلة القاطعة، إلا أن بعض الفرضيات لا تكون بعيدة عن ملامسة بعض الجوانب الخفية والحقيقية. فقد عرف عن الدليمي أنه كان عنيدا في مواقفه لا يلين أبدا، وكان يعتبر أن كل طرف عليه القيام بدوره الطبيعي، على أن يترك الحساب في ذلك لبديهيات النتائج، وقد سمح له هذا العناد الذي لم تكن تعوزه النظرة الاستراتيجية لميدان الحرب بتحقيق مكاسب ميدانية، ليس أقلها أنه خاض في أيامه الأخيرة ما يشبه حرب العصابات التي أدت إلى اندحار فلول مقاتلي البوليساريو وفرارهم من مخابئ كانوا يلوذون بها. والحال أنه جعل التجربتين الميدانية والسياسية، من خلال توليد القيام بمهام أمنية على قدر كبير من الأهمية مكنته من الانفتاح على عوالم جديدة، فقد تدرج عبر مراحل حياته في مهام أمنية متعددة، بدأت بالإشراف على جهاز «الكاب واحد» وتولي مسؤولية الإدارة العامة للأمن بالنيابة، ثم مديرا للأمن ومديرا للدراسات والمستندات والوثائق، وأحد كبار الضباط المرافقين للملك، علاوة على أنه كان قائدا للمنطقة الجنوبية في فترة دقيقة اتسمت باندلاع المواجهات العسكرية في الصحراء ضد الأعداء والخصوم. نفوذ وأخطاء غير أن هذا الوضع الاعتباري، الذي أهله لأن يصبح له نفوذ قوي على الصعيدين العسكري والاستخباراتي، لم يكن ليسلم من مظاهر الطموح الأهوج الذي يدفع بمعتنقيه إلى الهاوية أحيانا، ومن ذلك أن بعض المقربين إليه صاروا يصورون له فتوحاته على أنها تواجه ببعض المناورات، مما سيدفعه إلى ارتكاب المزيد من الأخطاء القاتلة. في بداية حياته المهنية، كان يستطيع أن يدثر تلك الأخطاء بعزوف الآخرين من درجات متفاوتة عن القيام بمهامهم، لكنه حين أصبح الرجل الأكثر نفوذا لم يعد في وسعه أن يلقي بأخطائه التي لا تغتفر في ملعب الآخرين. هفوة بعد أخرى، سيدخل الجنرال أحمد الدليمي في صراع مفتوح مع كبار جنرالات المرحلة، خصوصا الجنرال محمد القباج، قائد سلاح الطيران. لا أحد يعرف تحديد ا مكان الخلل في علاقات الرجلين اللذين نجيا معا من طائرة الموت حين كانا رفقة الملك الحسن الثاني على متن طائرة البوينغ التي تعرضت لقصف طائرات مغيرة في الأجواء الشمالية يوم السادس عشر من غشت 1972. غير أن دعوى قضائية سجلها الجنرال محمد القباج ضد مجهول يوم تعرض إلى تهديدات بالتصفية نتيجة ما وصف بعدم وفائه بالتزامات محددة، ستضع الكثير من علامات الاستفهام حول ما كان يخطط له الدليمي، وهل صحيح أنه كان طرفا في خطة همت تصفية القباج أم إن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد سيناريوهات تبددت في تلك المرحلة على نحو ضيق جدا؟ الذين رافقوا الدليمي في مساره يعرفون أنه كان يرفض أن يعترض طريقه أحد. لكن هل الجنرال القباج اعترض طريقه في أية قضية تحديدا؟ ولعل في حكاية الدليمي مع الإخوة بوريكات ما يفيد بأن الرجل كان في استطاعته أن يزج بخصوصه في غياهب السجون، خصوصا إذا كانوا من النوع الذي يخطط لإطاحته، فقد حدث يوما أن تناهى إلى علم الملك الراحل الحسن الثاني أن رجل ثقته الدليمي قد يكون بصدد التخطيط لشيء ما ضده. ووفق مصادر عليمة، فإن التحريات قادت إلى معرفة مصدر تلك الوشاية والذي لم يكن سوى أحد الإخوة بوريكات. كما في المواجهات المفتوحة التي كانت تروق للملك الحسن الثاني، سيتردد أنه جمع الدليمي بأحد الإخوة بوريكات ليقول كل واحد روايته، وقد تبين أن نزاعا حول شركة للتنقيب عن المعادن في تخوم الأطلس كانت وراء تفاصيل الحكاية التي انتهت بترحيل الإخوة بوريكات إلى معتقل تازمامارت الرهيب. أحكام غير قاسية غير أن المثير في هذه العملية أنها تزامنت مع نقل العسكريين المدانين في المحاولتين الانقلابيتين الفاشلتين من سجن القنيطرة إلى تازمامارت، بذريعة منع الاختلاط بين هؤلاء وسجناء آخرين ينتسبون إلى تيار يساري راديكالي أدينوا بتهم الإخلال بالأمن العام. وثمة من يؤكد أن الدليمي شخصيا كان وراء الفكرة، من منطلق أنه لم يتقبل ما كان يصفه بالأحكام غير القاسية التي صدرت ضد المتورطين في المحاولتين. لم يكن نزاع الصحراء قد اندلع، إلا أن الدليمي، الذي لم يكن بعيدا عن الترتيبات التي همت تنظيم المسيرة الخضراء، باعتباره كان يقوم بجولات في المناطق الجنوبية لرصد تطورات الأحداث في الساقية الحمراء ووادي الذهب، سيجد في ذلك فرصة سانحة لإبراز كفاءته الميدانية، من جهة لأن المؤسسة العسكرية كانت بصدد نفض غبار تداعيات المحاولتين السابقتين، والاتجاه نحو تأسيس جيش عصري أبان، في غضون ذلك، عن قدرات عالية في معارك الجولان في خريف 1973، ومن جهة ثانية لأن تشابك الأدوار بين عوالم الاستخبارات والحروب العسكرية مكن الدليمي من اعتلاء الواجهة كرجل مرحلة بامتياز، تمكن من بسط نفوذه على قطاعات هامة، في نطاق الصلاحيات المخولة له، لكن دون إلغاء رغبته وطموحه إلى الانشغال بالملفات السياسية والأمنية، متى أتيحت له الفرصة. سيرافق الدليمي، من موقعه الذي تدرج إلى مستويات متقدمة، تطورات قضية الصحراء. فقد عبر أكثر من مرة عن أمله لو أن الملك الحسن الثاني قاد شخصيا مسيرة السادس من نونبر، ولم يكن يريد لأي من السياسيين أن يقطف ثمارها، وفي الوقت نفسه، شرع في استبدال منطق المواجهة ضد أحزاب المعارضة بمنطق التعايش معها، لكنه كان يفعل ذلك على إيقاع ما يعاينه من تحولات في محيط القصر. فالرجل الذي نشأ داخل سيطرة العقلية الأمنية الأكثر تشددا، من خلال مرافقته الجنرال محمد أوفقير في مساره، كان صعبا أن يغير من جلده إلا وفق تدرج يستند إلى مرجعية تطورات الانفراج السياسي، الذي بدأت معالمه بعد العام 1975. لذلك، فإن بعض رجالاته سينخرطون في العمل الحزبي، عبر التجربة البرلمانية لعام 1977، بما في ذلك والده بلحسين ومزارعون إقطاعيون في منطقة الغرب وآخرون، وإن كان ظل يميل إلى ما كان يعتبره الانتماء إلى البادية، إلى درجة أنه كان يحسم في بعض القضايا التي تعرض عليه من منطق شبه قبلي، أو على الأصح «عروبي» نسبة إلى سكان البوادي. على خلاف كثير من التأويلات، فقد كان الدليمي أكثر من دفع في اتجاه تلميع صورة إدريس البصري، منذ أن عمل إلى جانبه رئيسا لديوانه في الإدارة العامة للأمن، ثم مسؤولا عن الشؤون العامة وقسم الولاة، ثم كاتب دولة في الداخلية، إلى أن أصبح وزيرا للقطاع في عام 1979. وكان الجنرال مهتما، في هذا الصدد، بألا يزاحمه أحد من أصحاب النياشين والأوسمة التي تزين الصدور. فقد وجد، بدوره، في البصري منفذا أمينا لا يخرج عن المطلوب، وإن كان إخراج بعض السيناريوهات يتأثر بيد القابلة كما يقال. لعل الحذر الذي كان يساوره إزاء تعرضه لمكروه على يد رفيق طريقه الجنرال محمد أوفقير لم يفارقه، بالرغم من أنه بسط نفوذا قويا في مجالات متعددة. وربما لم يدر في خلده أن الاطمئنان إلى تزايد النفوذ لا يعني بالضرورة أن الطريق سالكة نحو احتكاره. وقد تكون غلطته القاتلة أنه تصور، يوما، أن في إمكانه أن يخلي ساحة السلطة من كل الأسماء والوجوه التي لم يكن يرتاح لها، أو كان يخالها تضايق نفوذه مترامي الأطراف.
الأيام الأخيرة حارب الجنرال في الصحراء بقوة ورباطة جأش. ولعل مشكلته أنه أراد يوما أن ينقل المعارك إلى واجهات أخرى. وهكذا، من هفوة إلى أخرى، بدأ الرجل يفقد زمام المبادرة، إذ لم يعد في وسعه أن يستخدم حدس التمييز بين ما هو ممكن وما هو غير قابل للتحقق. في أيامه الأخيرة، تغير الدليمي كثيرا، كان يفقد هدوءه لأقل سبب، وكان يلوذ بعصيان نفسه حتى، فيصدر عنه كلام يغرفه من قاموس غير لائق. هل كان منشغلا بشيء يؤرقه إلى هذا الحد أم إنه أضاع الطريق التي كانت سالكة بين ضيعته الفسيحة في مشرع بلقصيري والأماكن التي كان يتردد عليها أكثر؟ فقد بدأت تأسره نزعة التخلص من كل شيء، الأصدقاء والخصوم المفترضين، على حد سواء. انتهت الأيام التي كان يرتاد فيها أماكن خاصة، ويلهو بلعبته المفضلة في حرق الأوراق الصغيرة بين يديه. انتهت كذلك أكثر من خطة وضعها لتصفية خصوم محتملين صنفهم ضمن قوائم الرؤوس المطلوبة. ولم يبق له سوى أن يواجه نفسه. ستكون نهاية عام 1982 نذير شؤم عليه. والأكيد أنه لم يستوعب جيدا دروس التاريخ التي قرأها عندما كان يقبع في أحد سجون باريس، على خلفية تورطه في قضية اختطاف واغتيال المعارض المهدي بن بركة، ففي الخامس من يونيو 1967، خرج مزهوا ببراءته لفائدة الشك، غير أن 1984 ليست هي 1967، فالبراءة لا تنزع إلا على قدر أصولها وفروعها. سيخبر الدليمي أحد مساعديه بأنه ذاهب إلى رحلة صيد. فقد كان مولعا بالقنص والغطس في عمق البحار، وكما أن الغطس يحتاج إلى أوكسجين، فالصيد يحتاج إلى براعة فهم الطبائع. ومن لم يمت بالرصاص أو السيف مات عبر الارتطام بشجرة عند ممر نخيل مراكش، كتب لها أن تحجب أسرار غابة كثيفة من الظلال المتوارية.