عادت بي صورة فرسان الرحامنة الذين احتجوا فوق جيادهم على عدم تقديم المساعدة الطبية لأحد زملائهم عندما سقط عن صهوة جواده بسبب أحد مسؤولي الأمن الذي نهره، إلى سنوات السبعينات والثمانينات. فقد استدعي الفرسان إلى متابعة الخطاب الملكي يوم عيد العرش في تلفزيون العمالة حيث يصطف المنتخبون والأعيان والموظفون الرسميون أمام الشاشة ويتابعون بخشوع خطاب الملك. وكأن المغرب لم يتغير منذ ثلاثين سنة الماضية. نفس الطقوس العتيقة والمضحكة أحيانا تتكرر. مع فارق بسيط هو أن فرسان «العهد الجديد» ليسوا كفرسان العهد القديم. والدليل على ذلك أن فرسان الرحامنة قاموا بمسيرة احتجاجية نحو عمالة الإقليم احتجاجا على تأخر وصول الوقاية المدنية لإسعاف زميلهم حتى قبل أن يستمعوا إلى خطاب الملك. إلا أن أحد المسؤولين نبههم إلى أنه ليس من اللائق أن يتركوا سيدنا يخطب وحده في التلفزيون، ولذلك فعليهم أن يستمعوا إلى الخطاب أولا «وديك الساعة يحن الله». في «العهد القديم» كان المقدمون والشيوخ يتكفلون باستدعاء المرضي عنهم من التجار والأعيان و«المتعاونين» لمتابعة الخطاب الملكي في تلفزيون العمالة الملون. وبمجرد ما ينهي الملك خطابه بآيته المفضلة «وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمومنون»، ينتشر المدعوون حول المائدة ليملؤوا بطونهم وجيوبهم بحلوة سيدنا، مبررين جشعهم وقلة مروءتهم بالبركة التي في الحلوة. اليوم في حفل الولاء الذي نظم هذه السنة في فاس عوض أن يأخذ بعض المدعوين البركة أخذوا ضربة شمس. وسقط بعضهم مغشيا عليه بساحة المشور بمدينة فاس، حيث درجة الحرارة تتجاوز الأربعين. فحرس المشور صارمون ولا يسمحون للمدعوين بإدخال قنينات الماء معهم. وشخصيا أشفقت على هؤلاء المدعوين من وزراء ومنتخبين وأعيان الذين جاؤوا من كل فج عميق في بداية غشت الحار هذا لكي يقفوا ملفوفين مثل قوالب السكر في ذلك الزي المعقد الذي يشبه الكفن، بطرابيشهم الحمراء الملفوفة بدورها في قب جلابيبهم الحريرية التي يلبسون تحتها طبقات سميكة من الثياب، وينتعلون بلاغي جلدية بعد أن يغلفوا أرجلهم بجوارب بيضاء. عوض أن يكونوا «مشبحين» فوق فوطة على الرمل واضعين أرجلهم في مياه البحر، منصتين إلى صوت الموج وهو يداعب الرمل. عوض الاستماع إلى «قايد» المشور وهو يصرخ بأعلى صوته «كاليكم سيدنا الله يرضي عليكم»، «كاليكم سيدنا الله يهديكم». أحد المشاركين في حفل ولاء هذه السنة قال لأحد الصحافيين أنه شعر بالخشوع عندما كان يركع أمام الملك. ولو كنت مكان الصحافي لسألته هل يا ترى يشعر بنفس الخشوع عندما يركع بين يدي الله في صلاته. هذا على افتراض أنه يصلي. فهناك بعض الوزراء والمنتخبين والولاة والعمال لا يعرفون موقع القبلة ولا يركعون في حياتهم سوى مرة واحدة كل عام، أمام الملك. مشارك آخر في حفل الولاء الأخير قال بأن الملك الجديد، وها قد مرت عشر سنوات على اعتلاء محمد السادس للعرش ومازال البعض يناديه بالملك الجديد، ليس كوالده ولم يترك ضيوفه ينتظرون تحت الشمس طويلا، بل وضع لهم في مدخل المشور خياما مكيفة فيها موائد الرحمان. وطبعا فالبوجاديون الذين يحضرون حفل الولاء أول مرة لا يعرفون عواقب الإكثار من شرب العصائر والمياه المعدنية وكؤوس الشاي. لذلك تراهم بعد ساعة من «التغلاق» يتحرزون في أماكنهم من شدة انتفاخ مثاناتهم. وطبعا فمن غير المسموح به في بروتوكول المشور أن يغادر الضيف مكانه بحثا عن مرحاض. فمراحيض قصور سيدنا ليست مفتوحة أمام مثانات وأمعاء العوام والهوام من الرعية. فضلا عن أن كل من يدخل المشور يتم تفتيشه حتى آخر ثنية في جلبابه، وليس هناك مجال للخروج من جديد والعودة إلى المشور. وكم هم محظوظون ضيوف الملك الجديد الذين يأتون لتأكيد ولائهم وتشبثهم بأهداب العرش، فالملك لم يتأخر عليهم كثيرا، وهذا من حسن حظهم، لأنه لو تأخر عليهم وهم واقفون تحت شمس فاس في غشت، لوجد أغلبهم مغشيا عليه وسط ساحة المشور. كما أن حفل الولاء لم يتعد نصف ساعة من الركوع. قلت كم هم محظوظون لأن الذين حضروا حفلات الولاء في عهد الحسن الثاني يعرفون ماذا يعني الإنتظار. فالحسن الثاني كان معروفا بكونه «نوام الضحى»، أي لا يستطيع أن يقوم من فراشه إلا بعد الثانية عشرة. وكان الضيوف يصلون إلى المشور مع ساعات الصباح الأولى، وبمجرد ما يتم تفتيشهم يدخلون إلى قاعة انتظار ويجلسون بانتظار «خروج» الملك عليهم. ولأنه كان ممنوعا على أي واحد من الضيوف التزحزح من مكانه، خوفا من الجنرال مولاي حفيظ الذي كان يضرب الوزراء تحت ضلوعهم لكي يطوي الواحد منهم على اثنين عندما يرى أن انحناءته أمام الملك ليست بالتقويسة الكافية التي يتطلبها البروتوكول المخزني، فقد كان بعض الوزراء والمنتخبين والأعيان الذين يعانون من أمراض السكري والبروستات الذين يحتاجون إلى التبول بين وقت وآخر، يلجؤون إلى لبس حفاظات «إكسطرا لارج»، تحسبا للطوارئ. وعندما يحتاج أحدهم إلى قضاء حاجة من حوائجه، يفعلها تحته. وكم حاجة قضيناها بتركها. والشيء نفسه كان سائدا في جلسات الدروس الحسنية التي يأتون بالضيوف الذين سيقاسمون الحسن الثاني جلسته في المسجد ساعات قبل انطلاقها. ويمنع عليهم موظفو البروتوكول مجرد تغيير «التربيعة»، فالأحرى تغيير المكان. وعلى الذين يؤاخذون الملك الجديد على تشبثه بطقوس حفل الولاء الذي ورثه عن أجداده بتفاصيله التي تأباها النفس الحرة الأبية، أن يشكروا الله لأن الملك الحالي ليس كوالده الذي كان يفرض على كل أعيان المدينة وعاملها ومنتخبيها أن يصطفوا أمام القطار الملكي الذي سيمر أمامهم ويركعوا له. وقد شاهدت مشهدا مماثلا في مدينة المحمدية سنوات الثمانينات يقتل من الضحك. خصوصا عندما اصطف الإخوة فوق مرتفع يمر من أمامه القطار في مدخل المحمدية، ووقفوا ينتظرون منذ الصباح الباكر مرور القطار. وبعد ساعات من الانتظار تحت الشمس، مر القطار الملكي أمامهم كالبرق، وركع الإخوان، وهم يتنفسون الصعداء من دون شك، وقبل أن يرفعوا رؤوسهم المطربشة كان القطار قد وصل إلى بوزنيقة. في تلك السنوات السوداء كان عيد العرش يدوم أسبوعا كاملا، وكل الحرفيين والعمال كانوا مجبرين على تنظيم احتفالهم الخاص بهم بعد أن يكتروا محلا لذلك. وهكذا كانت تنتعش حرف منسية كمهنة الخطاطين الذين لم تكن لديهم مشاكل سياسية في أن يجمعوا بين كتابة شعارات الأحزاب المعارضة والنقابات في فاتح ماي وبين أن يكتبوا عبارات الولاء والإخلاص والتشبث بأهداب العرش العلوي المجيد. والمضحك في عهد الحسن الثاني هو أنه كان يريد أن يكون الأول في كل شيء، فهو الرياضي الأول والقناص الأول والفنان الأول والمخترع الأول. ومن شدة خوف الحرفيين على أرزاقهم فقد كانوا جميعهم يعلقون لافتات يهدون فيها هذا السبق لملكهم. فالرياضيون كانوا يعلقون فوق منصة حفلتهم «الرياضيون يحتفلون بعيد الرياضي الأول»، و جمعية الصيادين والقناصة كانوا يعلقون لافتة تقول «القناصون يحتفلون بعيد القناص الأول»، ومن شدة ما كان بعض الحرفيين على نياتهم فقد أوشك الجزارون في أحد الأعياد أن «يخرجوا» على مستقبلهم عندما رفعوا لافتة كتبوا عليها «الجزارون يحتفلون بعيد الجزار الأول». فسارع الخليفة والباشا إلى إنزال اللافتة و«ترياب» حفلة الجزارين. اليوم ليس المغاربة مجبرين على طلي «الجير والصباغة» لبيوتهم كلما اقترب عيد العرش أو عيد الشباب أو عيد المسيرة. فالمقدمون والشيوخ الذين كانوا يتولون مهمة طرق أبواب المواطنين لأمرهم بتزيين بيوتهم لم يعودوا يتلقون هذا الأمر. كما أن وضع الرايات فوق بيوت المنازل لم يعد واجبا وطنيا. والبعض استثمر قماش الرايات التي «شاطت» لديه في «تزييف» الكؤوس في المطبخ. الراية اليوم لم يعد يحملها المقاومون وقدماء جيش التحرير، بل أصبحت تتحزم بها الداودية صاحبة الكمانجة، ونجاة عتابو، والداودي والشاب خالد وكل من صعد منصة وأخذ المايكروفون، ومعه شيك سمين. هؤلاء هم الوطنيون الجدد، الذين يمسحون عرقهم بالراية المغربية وهم يغنون حول البار والكباري والبابور. نهاية حزينة لراية لم يعلمونا كيف نحبها دون أن نفكر في كل القياد والمقدمين والشيوخ الذين كانوا يجبرون آباءنا على اقتنائها وتعليقها فوق السطح، إلى أن يمر العيد ثم ننزلها بانتظار عيد آخر.