دخلت عندي إلى عيادة الاستشارة الطبية سيدة في الخمسين من عمرها حزينة ومهمومة كأنها تحمل مشاكل العالم على رأسها. إنها امرأة متزوجة، مستقرة في أسرتها دون مشاكل تذكر، أستاذة في المستوى الثانوي، تحظى باحترام وسطها المهني، ولا تشكو من مشاكل فيه ذات بال. عند البحث في تاريخ حالتها المرضية يتأكد بأنها عانت أول مرة من الاضطراب الاكتئابي سنة 1978 وهي في الثلاثين من عمرها، أي قبل ذلك بعشرين سنة. كانت آنذاك طالبة في الجامعة، فشعرت حوالي شهر يوليوز من تلك السنة بحزن عميق وغمة في النفس وعجز عن الحركة مع البكاء غير المبرر والعصبية في بعض الأحيان دون سبب وقلة النوم. دامت هذه النوبة حوالي الشهر، فخفت تدريجيا واختفت دون علاج. ظنت المعنية بالأمر أنها حالة عابرة تخلصت منها. لكنها شعرت مرة أخرى في صيف 1981 بحالة اكتئاب أشد من الأولى، فشك أفراد من عائلتها في أن الأمر يتعلق بسحر أو ما شابه. فتنقلت بين المعالجين التقليديين بمختلف أصنافهم. تحسنت بعد أربعة شهور تقريبا من معاناة الحزن والقلق والبطء النفسي والحركي، فظنت وظن أهلها أن أحد أولئك المعالجين هو السبب في ذلك. استمرت السيدة تعاني كل سنتين أو سنة ونصف من حالة اكتئاب أخف من النوبتين الأوليين، تصبر عليها أسبوعين أو ثلاثة إلى أن تمر، أو تلجأ إلى العلاج بالقرآن أو إلى بعض العلاجات التقليدية، إلى أن تمر. وفي سنة 1992 صيفا عاودتها حالة اكتئاب شديدة، أشد من النوبتين الأوليين. فإضافة إلى الأعراض التي عانت منها فيهما، تميزت النوبة الجديدة بقلة الاهتمام بنفسها وبأشغالها اليومية ونقص الحيوية والطاقة وعدم الشعور بالاستمتاع بالأمور التي كانت تستمتع بها عادة. مع فقدان الرغبة في تناول الطعام مما أنقص وزنها بضع كيلوغرامات. وبرز لديها الشعور العميق بالذنب وكره الحياة وأفكار تمني الموت، مع الصراخ والعصبية بدون سبب. حارت الأسرة، فنصحها أحد الأطباء من أقاربها المتخرجين حديثا باستشارة طبيب نفساني. وكذلك كان. قام الطبيب النفساني بإدخالها للمستشفى تحت مراقبة طبية، ووصف لها أدوية مضادة للاكتئاب. تحسنت بعد أسابيع قليلة، وبقيت تتناول دواءها. بعد أربعة أشهر تحسنت كثيرا فظنت أنها يمكن أن تتوقف عن تناول الدواء، ففعلت ضدا على نصائح طبيبها. بقيت هذه السيدة تصاب بنوبة اكتئابية كل سنة أو سنتين تقريبا، فتتنقل بين الأطباء إلى أن استقبلتها سنة 1998 في حالة نوبة شديدة. حالة هذه المرأة هي حالة نموذجية لنوع شائع من أنواع الاضطراب الاكتئابي. وهو يسمى الاكتئاب المعاود أو الاكتئاب المتكرر الحدوث. ويتكون من نوبات اكتئاب متكررة دون أي فترة من الفرح المرضي أو النشوة الزائدة التي تسمى نوبة هوسية. أما إذا حدثت نوبة هوس للمصاب، ولو مرة واحدة في عمره، فلسنا أمام اكتئاب معاود، وإنما نحن أمام ما يسمى بالاضطراب الوجداني ثنائي القطب الذي يتميز بتناوب نوبات اكتئاب ونوبات هوس. وبسبب تكرر النوبات في الاكتئاب المعاود فإن الناس في أغلب الأحيان يظنون أن تلك النوبات إنما هي انتكاسة للمرض تعكس عدم نجاعة الدواء أو عدم كفاءة الطبيب. لكن كل ذلك غير صحيح، فإن تلك النوبات جزء أصيل من المرض تعود ولو عولجت نوبة المرض التي قبلها جيدا. فجذور المرض وراثي، كأنه مكتوب في جينات المصاب أن نوباته ستتكرر على فترات معينة. إن الوعي بطبيعة الاكتئاب المعاود مهم جدا لتجنب تأخر اللجوء إلى الطبيب المختص ومتابعة العلاج الضروري، والتخلص من عدد من الأوهام المرتبطة به. والحمد لله أننا اليوم، ومنذ أربعة عقود من الزمان فقط، أصبحنا أقدر على تشخيصه وعلاجه. وهو علاج لا يشمل فقط علاج النوبة الحالية، ولكن أيضا يشمل أيضا علاجا وقائيا لتفادي تكرار النوبات في المستقبل.