استحضارا لعطاءات وتضحيات الإذاعي الراحل يحيى الكوراري، انتقل طاقم من الإذاعة الوطنية إلى مقر الإذاعة الجهوية في وجدة، لتسجيل فقرات حلقة يوم الأحد، 26 دجنبر الأخير، من برنامج «كي لا ننسى»، الذي تقدمه سميرة لشهب على أمواج الإذاعة المذكورة... وقد كان أول المتدخلين في حلقة الوفاء لروح الحاج يحيى الكوراري حسن البيطري، الذي قال إنه عرف في المرحوم «الأخَ والصديق والزميل الذي لم يكن يبخل بأي معلومة وكان على درجة عالية من التخلّق وحسن المعاملة و«مدرسة» قائمةَ الذات في الإعداد والتنشيط الإذاعيّيْن.. كما أنه لم يكن يحتاج إلى أرشيف، إذ كانت لديه ذاكرة قوية وقدرة عجيبة على الاحتفاظ بالمعلومات واستحضارها عند الحاجَة وكان على دراية دقيقة بمختلف المناطق المغربية، بما في ذلك القرى النائية والموغلة، حيث كان يستطيع إعطاءك تفاصيلَ دقيقة عن أبعد نقطة في المغرب العميق»... وفي شهادتها، ذكرت حليمة الكوراري، أخت المرحوم، أن «يحيى عاش في أسرة متوسطة، من أب كانت في عصمته زوجتان أنجبتا له 13 ابنا كان يحيى الرابعَ بين الذكور منهم. درس في وجدة، حتى الخامسة ثانوي، حيث فضّل أن يدرس في البيت.. لقد كان «أستاذَ نفسه» وكان شديدَ الولع بقراءة الكتب والمجلات، وخصوصاً الأدبيةَ منها، وكانَ «المفضَّلَ» لدى الوالدة وعندما كانت تسأله عن أحوال الدراسة، كان يجيبها قائلا: «أستطيع أن «أعلّم» أولئك الأساتذة!»... فقد كان يجد في نفسه القدرة على أن يصير صحافيا، فمنذ سن ال15 وهو يراسل برنامج «اخترتُ لكم» في الإذاعة المركزية وكان مقدم ذلك البرنامج غالباً ما يختار قراءة مقالاته على الأثير، والتي كانت تُنشَر في المجلة الشهرية الجهوية «الأطلس»... وتابعت حليمة الكوراري استرجاعَ بدايات أخيها يحيى قائلة: «عندما بلغ ال20 من عمره، سافر إلى الرباط، لاجتياز مباراة للالتحاق بالإذاعة، بتشجيع من أخيه الطيب (كان مفتشا في التعليم) ومن صديق العائلة عزيز حسن، الذي كان سفيراً.. لقد كان يحيى «نجمَ» العائلة وكان قد شارك في المسيرة الخضراء، رفقة مصطفى العلوي، إذ كانا مكلَّفَيْن بتغطية الأنشطة الملكية والرسمية وقتَها.. كما اكتسب خبرة وحنكة في المخيَّمات الصيفية، إلى أن صار إطاراً فيها وكذلك الشأن بالنسبة إلى الكشفية، التي صار قائداً فيها.. كان يحب عمله بشكل كبير إلى درجة أنه في آخر يوم في حياته، اشتغل حسب التوقيت الرسمي، فبعد الفترة الصباحية، التحق بالمنزل، كالعادة، وبعد عودته لاستئناف عمله في الفترة الزوالية، توفي على أعتاب الإذاعة الجهوية لوجدة، شهيداً للواجب المهني!»... أما عبد الحميد لحسيني فقال في شهادته إن «المناسبة ليست فقط فرصةً للتّرحُّم على الراحل، بل هي وقفةُ تأملٍ في مسار هذا الإذاعي الاستثنائي، الذي كان يشتغل بحب وبشغف وأحبَّ مهنتَه بشكل غريب وكان على كل لسان، لطيبوبته واستعداده دوما للاستماع إلى الآخرين والإنصات لهمومهم وانشغالاتهم، مما أكسبَه درجة رفيعة لدى شرائح واسعة من المواطنين ومحبّة خالصة في قلوبهم، والدليل على ذلك أنه يوم تناهت أخبار وفاته إلى المسامع، شُلَّت الحركة تماما في وجدة، حيث تقاطر الناس من كل الاتجاهات وامتدّت صفوفُ مَن ساروا خلف جثمانه لأزيدَ من 3 كيلومترات!»... ويختم لحسيني قائلا إن «الحاج يحيى كان يحب عائلتَه وأبناءه، خصوصا ابنتَه «نوال»، التي كثيراً ما كان يمتدح مواهبَها، حتى قبل أن تتسلم منه «المِشعلَ» وتلج بدورها أستوديوهات الإذاعة.. على أنه لم يكن يفتخر فقط بأبنائه، بل بكل مستمعيه وكان يولي أهمية خاصة لأيٍّ كان، من «السِّيرُورْ» إلى سائق الطاكسي، إلى «بائع كاوْكاوْ».. لقد جعلتنا عطاءات هذا الرجل وتهافت الناس على ترديد اسمه نفتخر بكوننا ننتمي إلى إذاعة اشتغل فيها يوماً ما إذاعيٌّ اسمه يحيى الكوراري، إلى أن صارت هذه الإذاعة، لدى الكثيرين، مقترفة باسمه... وكم يسعدنا أن يحمل أحد أستوديوهات إذاعة وجدة اسم هذا الرجل، الذي كان «كبيرا» في كل شيء»... أما قاسم اجداين، فلم يتمالك نفسَه وأجهش بالبكاء، وهو يتحدث عن «الشخص الوحيد الذي لم أدخل معه يوماً في جدال أو خلاف، طيلة 35 سنة من العمل، حيث طبَع الاحترام المتبادَل علاقتي بهذا الرجل المتخلق، الذي لم تكن الضحكة تفارق محياه، والذي لم يكنْ يظهر شيئاً مما قد يكون في أعماقه من هموم وانشغالات»... هي بعض من مميزات هذا الإذاعيّ الاستثنائي، الذي اقترن اسمُه بالخصوص ببرنامجَيْ «تهاني وأماني»، الذي كان «يوقف الحركة أسبوعيا داخل آلاف البيوت المغربية»، و«بالأحضان يا وطني»، الذي امتدّت شعبيته خارج الحدود المغربية، ببساطة لأن وراء البرنامجين رجلا وطنيا عشِق وطنه وترك بصمته «الأثيرية» في أذهان كل المغاربة داخل الوطن وخارجه...