كان الرئيس الأمريكي جورج بوش يرغب في مكافأة الإنجيليين الذين أيدوه بلا شروط خلال ولايتيه الأولى والثانية، فبادر إلى الضغط المكثف على الحكومة السودانية لتوقيع اتفاق أبوجا في عام 2005 والذي قضى بتنظيم استفتاء حول مصير جنوب السودان، ذلك أن الانفصاليين الجنوبيين كانوا وما زالوا يتلقون دعما قويا من الإنجيليين الأمريكيين وغيرهم من الجهات الدينية التي تسعى إلى تنصير السودانيين. ومعلوم أن العام المذكور شهد مبادرات أمريكية وغربية هجومية على العديد من الدول العربية، تزامنت مع الصعوبات التي واجهتها قوات الاحتلال الأمريكي في بلاد الرافدين. والراجح أن هذه المبادرات جاءت لقطع الطريق على احتمالات الإفادة من فشل احتلال العراق، وبالتالي تصفية القضايا التي كانت واشنطن ترعاها في العالم العربي، ومن بينها قضية الجنوب السوداني. وللتذكير، نشير إلى أن عام 2005 شهد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري ورحيل القوات السورية من لبنان، وشهد أيضا محاولات إسقاط النظام السوري وتصفية المقاومة اللبنانية عبر القرار الدولي 1559 واستكمال تسليم الملف النووي الليبي.. إلخ. وقد امتدت الضغوط الأمريكية إلى حرب يوليوز عام 2006 الفاشلة، حيث بدأت تتراجع وتنتقل من الهجوم إلى الدفاع. والراجح أنه لو تمكنت الحكومة السودانية من الصمود خلال عام 2005 فقط لربما أمكنها تفادي الكأس المرة في جنوب السودان ولعلها ضعفت بسبب انفجار دارفور واضطرارها إلى التنازل في إحدى الجبهتين من أجل تخفيف الضغط عن كاهلها فاختارت الجنوب. والثابت أن صيغة الاستفتاء في الجنوب ليست مطروحة لاختبار نوايا الجنوبيين تجاه الوحدة أو الانفصال. ولو كان الأمر يتصل بسبر آراء السكان لما احتاج إلى كل هذه الضجة والمناورات والتدخلات الخارجية، ذلك أن فريقا تقنيا صغير الحجم كان بوسعه القيام بهذه المهمة. فالقضية تتصل، إذن، بمصير السودان برمته وأن الاستفتاء هو مخرج لانفصال الجنوب برضى الخرطوم لإضفاء شرعية حكومية على الدولة الانفصالية وتسهيل اندماجها في العلاقات الدولية بسهولة. وإذا كان الانفصال الجنوبي هو النتيجة الثابتة للاستفتاء، فإنه سيتسبب في زلزال لن تنجو منه دولة عربية واحدة، ابتداء من شمال السودان نفسه الذي سيواجه انفصاليين في كل مكان لا تختلف قضاياهم عن قضايا الجنوبيين، ومرورا بالعراق الذي سيخسر شماله الكردي، وصولا إلى الدولة الأمازيغية المرجوة في المغرب العربي، وسيتعزز حال ما يعرف ب«الأقليات» في دول عربية عديدة، وسيلعب الكيان الصهيوني دورا مركزيا في حماية المنفصلين ورعاية أنشطتهم ضد دولهم الأصلية التي ستكرس إمكاناتها للدفاع عن كيانها وستكف عن التفكير في مواجهة إسرائيل والولايات المتحدة. وإذا كان بعض الدول العربية المتحالفة مع واشنطن يظن أن هذا التحالف يقيه شر الانفصال والانفصاليين فإنه يرتكب خطأ قاتلا، ذلك أن الحليف الأمريكي سيطلب انصياع حليفه المحمي وخضوعه التام لإرادته ليظل الأخير تحت التهديد الدائم بتدمير كيانه، فإن خضع يصطدم بالثقافة السياسية الشعبية المناهضة لواشنطن وتل أبيب، وبالتالي تضعف سيطرته على الأوضاع في بلاده، ومع ضعفها يعزز الانفصاليون حركتهم، وإن لم يخضع يصبح هدفا لضغط أمريكي مباشر معطوفا على تدخل المؤسسات الدولية المنافقة التي تطالب بحق تقرير مصير هذه الفئة أو تلك بالاستناد إلى «السابقة» السودانية. يجدر بالدول العربية، التي تؤيد انفصال جنوب السودان خفية أو بطريقة مواربة، أن تدرك أنها تساهم في إشعال نار من الصعب إطفاؤها أو السيطرة عليها، فالرياح الأمريكية والإسرائيلية جديرة بنقلها إلى حيث تريد ومتى تريد في هذا العالم العربي الذي لا يكف عن التفكك لأنه لا يكف عن التبعية والخضوع لأعدائه وخصومه. ويجدر بالدول العربية، التي تناهض الانفصال، أن ترفع صوتها عاليا لا أن تتحدث بخفر وخجل يوحي بضعفها وخوفها من الآتي، فالخوف لا ينقذ أنظمة اختارت الممانعة، خصوصا وأن سوء التقدير قد يطيح بمجمل الاستراتيجيا الممانعة. وإذا كان صحيحا أن الممانعين منشغلون بقضية المحكمة الدولية حتى أخمص القدمين، فالصحيح أيضا أن هذه القضية يراد لها أن تبقى على نار حامية حتى يمر انفصال الجنوب السوداني بهدوء ويصبح مضمونا، وإن حصل تدور الدوائر على لبنان ويصار إلى فرم الممانعين ألف قطعة كما وعد نائب وزير الخارجية الأمريكي جيفري فيلتمان، حسب إحدى وثائق «ويكيليكس» الغنية عن التعريف. في هذه الحال، لا يبقى إلا أن نضرب موعدا للزعماء العرب مع التاريخ الذي سيسجل في شهر يناير المقبل الفصل الأول في عملية جراحية واسعة لتمزيق العالم العربي انطلاقا من جنوب السودان، وسيتم ذلك في عهد مسؤولي الأمة العربية الحاليين الذين وافقوا، ضمنا أو مواربة أو مانعوا دون ضجيج أو فضلوا تمديد عطلة نهاية العام إلى ما بعد وقوع الانفصال.