تعتبر قضية احتلال مدينتي سبتة ومليلية المغربيتين من أهم القضايا القومية التي يجب أن تطرح على طاولة النقاش العربي، سياسيا وإعلاميا وشعبيا، وهي قضية استعمار، لا تختلف في شيء عن الاستعمار الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، ولهضبة الجولان السورية، ولمزارع شبعا اللبنانية، كما لا تختلف عن الاستعمار الأمريكي للأراضي العراقية. لكن للأسف الشديد، يبدو أن هذه القضية لم تأخذ كامل حجمها القومي، وظلت لوقت طويل قضية قطرية تهم المغرب فقط. نحن هنا نعترف بتقصيرنا الكبير -كمغاربة- حكومة ونخبا فكرية وفئات شعبية، لأننا لم نول هذه القضية الاهتمام اللائق بها، كما أبدينا تقصيرا كبيرا في التعريف بقضيتنا قوميا. لكن هذا لا يعني أن الرأي العام العربي لا يتحمل مسؤوليته التاريخية بخصوص هذه القضية، فرغم التقصير الرسمي المغربي إعلاميا وسياسيا، فإن هناك الكثير من الكتابات -المغربية خصوصا- التي توقفت عند القضية بالدراسة والتحليل، كان من شأنها أن تضع هذه القضية على قائمة الاهتمامات العربية. إن العالم العربي يشكل كتلة متراصة ومتلاحمة، بمشرقه ومغربه. ونحن -كمغاربة- ندرك هذا جيدا، ولذلك فنحن نعتبر القضايا العربية قضايا وطنية أولى. وفي هذا الصدد، نذكر بما بذله جنودنا الشجعان في معارك الجولان السورية، ونذكر كذلك بالدعم المغربي اللامحدود، حكوميا وشعبيا، للقضية الفلسطينية، التي شغلتنا جميعا، باعتبارها قضيتنا الوطنية الأولى، ولا يعد العراق ولبنان استثناء في هذا المجال، فقد عاش الشعب المغربي كل اللحظات الأليمة لسقوط بغداد في أيدي الاستعمار الأمريكي، وخرج في مسيرات مليونية منددا بالجرائم الأمريكية. وبعيدا عن الحسابات المذهبية الضيقة، قدم الشعب المغربي دعما لا محدودا للمقاومة في لبنان، واعتبرها بتلقائية كبيرة مقاومة تجسد طموحات كل عربي في التحرر من ربقة الاستعمار والوصاية الأجنبية... والأمثلة في هذا الصدد تطول. هذا ليس مَنّا البتة، بل هو على العكس من ذلك واجب قومي، يفرض علينا، كجزء لا يتجزأ من الامتداد العربي، أن نتداعى جميعا بالسهر والحمى لأي عضو فينا إذا أصيب بالمرض. لقد علمتنا الأجيال السابقة علينا أن الوحدة العربية، في مواجهة التحديات الخارجية، يمكنها أن تحقق المعجزات. ونحن نحلم بذلك الزمن الجميل الذي جمع كل قادة التحرر العربي، مشرقا ومغربا، في قاهرة المعز، حيث كانت الخطط واحدة موحدة، وحيث كانت الأهداف واضحة. لقد كان علال الفاسي ومحمد بن عبد الكريم الخطابي إلى جانب قائد الثورة العربية (جمال عبد الناصر)، وكان راديو «صوت العرب» يبث كل هذه الأصوات برنة واحدة طافحة بروح التحرر العربي. وفي ذلك الحين، لم تكن قضية سيناء والجولان والضفة الغربية تختلف عن قضية سبتة ومليلية واستقلال الجزائر. لقد كانت جميع هذه القضايا قضية واحدة، وكان النضال موحدا بأهداف واضحة، تصب جميعا في إنهاء الاستعمار والتبعية العربية للأجنبي. لقد كانت وحدة الصف هذه أقوى سلاح، واجهت به الشعوب العربية قوى الاستعمار الغربي الغاشم، ولذلك حققت حركات التحرر العربي أهدافا كبيرة تجاوزت، في كثير من الأحيان، السقف المرسوم، فقد كبرت الطموحات العربية وتجاوزت المطالبة بالاستقلال الكامل للأقطار العربية إلى المطالبة بتنحية جميع مظاهر الاستعمار، اقتصاديا وسياسيا وثقافيا. إن ما يسجله التاريخ هو أن هذا المسار أجهض في وسط الطريق، عبر مؤامرات، التقت فيها مصالح القوى الاستعمارية في الخارج بقوى الخيانة والعار في الداخل، وبذلك كانت الضربة قاصمة، وتراجعت طموحات الثورة العربية وانكفأ قادتها على أنفسهم، بينما فسح المجال لقادة قطريين ضيقي الأفق، لا ينظرون أبعد من أنوفهم، وبذلك عوضت المقارباتُ القطرية للقضايا العربية المقارباتِ القومية، وصار كل قطر يغني على ليلاه ويسعى إلى إيجاد حل -ولو ترقيعي- لقضيته الوطنية، حتى ولو كان ذلك ضدا على المصلحة القومية. وقد افتتح «أنور السادات» هذا المسار الجهنمي، حينما وقع اتفاقية «كامب ديفيد» مع الكيان الصهيوني، لاستعادة سيادة شكلية على سيناء، وذلك من دون أي اعتبار لما يجري في فلسطين والجولان السورية... لكن هذا المسار لم يتوقف بل استمر، محطما كل أحلام التحرر العربي التي صاغها رجال الثورة والتحرر، مغربا ومشرقا. وهكذا، انتقلنا من وضع كانت المواجهة خلاله قائمة بين العالم العربي وقوى الاستعمار والاستكبار الأجنبي، إلى وضع جديد أصبحت المواجهة خلاله قائمة بين الفرقاء العرب أنفسهم، في وضع بئيس، اتخذ في البداية شكل تنافس وصراع حول المصالح، لكنه انتقل فيما بعد إلى مواجهات مفتوحة، أدت خلالها الشعوب العربية ضرائب باهظة الثمن، من أمنها واستقرارها ومن تقدمها ووحدتها. وفي هذا السياق، لا بأس أن نذكر بما جرى -وما يزال- بين الجارين العربيين (المغرب-الجزائر) من توترات خطيرة، وصلت إلى حدود إشعال فتيل الحرب التي مزقت آخر ما تبقى من أواصر الأخوة القومية. وإلى حدود الآن، ما تزال الجزائر مصرة على تغذية الأحقاد عبر دعمها اللامشروع لخطة تقسيم المغرب، التي عوضت بها إسبانيا فشلها في الإبقاء على جيوشها في الصحراء المغربية، بعد المسيرة الخضراء. وآخر ما أعلنت عنه عبقرية حكام الجزائر في هذه العداوة كان هو دعم المستعمر الإسباني في محاولته للسيطرة على جزيرة (ليلى) المغربية، في خروج سافر عن كل الأخلاقيات التي تربط بيننا، كعرب ومسلمين نشترك في نفس المصير. في ظل التواطؤ الحاصل بين الاتحاد الأوربي والمؤسسات الدولية حول تأبيد استعمار مدينتين مغربيتين من طرف إسبانيا، يبقى طموحنا -كمغاربة- هو أن تصبح قضية استعمار المدينتين قضية قومية، مثل قضية فلسطين، وقضية الجولان، وقضية مزارع شبعا، وقضية احتلال العراق. وهذا -في الحقيقة- لا يجب أن يظل طموحا، بل يجب أن يتحول إلى واقع ملموس. فنحن ننتظر مظاهرات مليونية في العواصم العربية، تندد بالاستعمار الإسباني لأرض عربية، كما ننتظر كتابات جادة لمثقفينا العرب، تسعى إلى التعريف بهذه القضية القومية، كما ننتظر أن يوليها إعلامنا العربي -وخصوصا القنوات الكبرى الصانعة للرأي العام العربي- اهتماما يكون في مستوى الحدث، سواء عبر إثارتها في برامج حوارية أو عبر بث وثائقيات تعرف بالمدينتين المستعمرتين أو عبر تقديم ريبورتاجات من الميدان، تكشف عن حقيقة الخروقات القانونية الممارسة في حق المغرب، ضدا على الشرعية الدولية. من العار حقا أن يترك المغرب وحيدا في مواجهة الغطرسة الأوربية، الداعمة للموقف الإسباني الملتزم باستعمار المدينتين، ضدا على القانون الدولي. وكيفما كانت قوة الموقف المغربي فهو يبقى، في الأخير، في حاجة ماسة إلى الدعم العربي، لأن المغرب يواجه ضغوطات رهيبة من الاتحاد الأوربي، تمنعه من إثارة هذا الملف، وهي ضغوطات اقتصادية بالدرجة الأولى، لأن المغرب يعتبر دول الاتحاد، الفضاءَ الذي تتنفس فيه رئتاه، وبعيدا عن هذا الفضاء سيختنق، لأنه دولة جنوبية/عالم-ثالثية، لا تمتلك الإمكانيات اللازمة لمواجهة أخطبوط اقتصادي وعسكري ضخم مثل الاتحاد الأوربي. إن إسبانيا -مدعومة من الاتحاد الأوربي- تمارس على المغرب سياسة ابتزاز رهيبة، لمنعه من إثارة قضية المدينتين المحتلتين، فهي تارة تسعى إلى مقايضة احتلال المدينتين بقضية الصحراء المغربية، وتارة أخرى تثير وضع المغرب في علاقته بالاتحاد الأوربي، كمقابل للمدينتين المحتلتين، ناهيك عن ضغوطات كثيرة أخرى ترتبط بالمهاجرين المغاربة على الأراضي الإسبانية، وبملف الصادرات المغربية نحو الاتحاد الأوربي، والتي تمر بالأراضي الإسبانية، وهي -في الغالب- صادرات فلاحية، مهددة في أية لحظة بالتوقف الإجباري (نذكر هنا بأحداث توقيف الفلاحين الإسبان للشاحنات المغربية المحملة بالطماطم على إثر أزمة الصيد البحري)... بالإضافة إلى ملفات أخرى تتحكم فيها إسبانيا لمقايضة المغرب بها، كلما أثيرت قضية استعمار المدينتين، حكوميا أو شعبيا. لكن هذه العراقيل مجتمعة لا يمكنها، في الحقيقة، أن تؤخر ملف مدينتينا المحتلتين إلى الأبد، ما دامت الجغرافيا عنيدة ومكابرة ولا يمكنها يوما أن تخضع لابتزازات المستعمر الإسباني، وكذلك التاريخ، فهو لن يعترف يوما بأن سبتة ومليلية مدينتان إسبانيتان، لأنهما شكلتا لقرون طويلة جزءا لا يتجزأ من السيادة المغربية. إن عناد الجغرافيا والتاريخ يجب أن يكون مدعوما بعناد مماثل للشعوب، التي تبقى قادرة لوحدها على تغيير المعايير السائدة، والتي يجب أن تفرض إرادتها في التحرر على حكامها الذين لا يمكنهم أن يصمدوا طويلا أمام سيولها الجارفة. والشعوب العربية، من المحيط إلى الخليج، مطالبة اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، باستعادة روح التحرر والثورة، التي تجري في دمائها، لطرد آخر بيادق الاستعمار من أراضيها، سواء في فلسطين أو في العراق أو في سوريا أو في لبنان أوفي المغرب... وفي نضالنا العربي المستميت من أجل قضايانا العادلة، لا يجب أن نفصل بين المشرق والمغرب، كما لا يجب أن نفصل بين المحاور والمذاهب والأعراق... إنه نضال واحد، بأهداف موحدة، يجب أن يسكننا ويدفعنا إلى الثورة على الاستعمار وأذياله. في الأخير، بقي أن أوجه -باسم جميع المغاربة- دعوة أخوية صادقة إلى كل الشعوب العربية، إلى أن تضع قضية مدينتينا المحتلتين (سبتة ومليلية) على قائمة اهتماماتها، وألا تفصل بين هذه القضية وقضية احتلال فلسطين والعراق والجولان ومزارع شبعا... كما أوجه دعوة صادقة إلى كل مثقف عربي غيور على قضايا أمته، على أن يناضل بقلمه في سبيل إنهاء استعمار مدينتينا المحتلتين. إن المغرب جزء لا يتجزأ من أمتنا العربية، ونحن نرجو أن تكون قضايانا كذلك جزءا لا يتجزأ من الهم العربي والإسلامي. كاتب وباحث أكاديمي مغربي - ادريس جنداري