لا شك أن الرأي الوطني في المغرب، بجميع شرائحه الاجتماعية، قد عايش مخاض مدونة الأحوال الشخصية لمدة عشر سنوات كاملة، وصل فيها الأمر إلى تنظيم مسيرات مليونية بالدار البيضاء قبل خروج مدونة الأسرة إلى الوجود بإيجابياتها وسلبياتها، إلا أن الذي تكرس في الثقافة المغربية (والذي يعكسه المثل القائل: حتى يزيد ونسميوه سعيد) وتطبيقه، يأتي مع الأسف معكوسا في بعض الأحيان، بمعنى أنه ينبغي أن نوضع أمام الأمر الواقع أولا ثم نفكر في الحلول والاستراتيجية الواجب انتهاجها فيما بعد. وقد تحقق هذا فعلا لما استمر مخاض مدونة الأحوال الشخصية مدة عشر سنوات قبل أن تحل محلها مدونة الأسرة دون أدنى بنية تحتية مناسبة لتطبيق هذا المشروع المجتمعي، إذ مازالت بعض أقسام قضاء الأسرة في بعض محاكم المملكة تنعقد جلساتها بأماكن غير لائقة بتاتا وغير ملائمة لقضاء العصر الواحد والعشرين، فضلا عن انعدام أية مبادرة من شأنها تحسين هذه الوضعية رغم مرور مدة طويلة على دخول المدونة حيز التطبيق، ومن أمثلة ذلك قسم قضاء الأسرة بالعاصمة الرباط الذي إذا ما دخله المتقاضي، مجبرا أو بإرادته، فإنه يتمنى ألا تطول مدة الزيارة بهذه المحكمة التي كثر فيها (الصّْوابْ: اسمح لي اندوز)، لأن الممر المؤدي إلى المكاتب لا يتسع إلا لشخصين فقط، فكيف الحال لما يتجمهر المتقاضون والمحامون أمام مكتب البحث بهذه المحكمة في قضايا الطلاق للشقاق منتظرين المناداة عليهم، ولربما أدى واقع الحال هذا بالطالب والمطلوب في هذه القضايا إلى التنازل عن طلباتهما تفاديا لكل ازدحام. لا شك أننا اعتدنا على هذه الحالة، وميلنا دائما يجرنا إلى عدم التغيير وبقاء الحال على ما هو عليه، وهكذا فإننا عملنا لمدة عشر سنوات حتى حققنا مشروعا قد يكون مهما بلا شك لأننا أطلنا فيه التفكير والتنظير، إلا أننا لم نعد له العدة اللازمة، وإلى حد الآن مازالت بعض أقسام قضاء الأسرة تعيش حالة مزرية، كالمثل الذي أسلفناه وغيره كثير خاصة بالمدن النائية. والأخطر من ذلك هو كون القاعدة المشار إليها أعلاه تطبق على جل مشاريعنا المجتمعية، ومن أمثلة ذلك مشروع مدونة السير الذي كان الهدف منه، أولا وأخيرا، الحيلولة دون استمرار حرب الطرق التي أصبحت، في الحقيقة، لا تحتمل ولا تطاق بسبب الحوادث المؤلمة التي فاقت كل تصور على طرقات المملكة إنْ على مستوى عددها أو على مستوى خسائرها المادية والجسدية، إلا أن التساؤل المطروح هو عما إذا كان ينبغي أولا البدء بمدونة الطرق أم بمدونة السير. إن تطبيق قانون ما لن يكون فعالا ومجديا إلا إذا لزمه بالمقابل توفير مناخ لتطبيقه، وما أظن أن مدونة السير ستعطي النتائج المتوخاة منها بدون وجود مدونة للطرق، بمقتضاها تكون البنية التحتية الطرقية بالضرورة صالحة حتى يصلح تطبيق مدونة السير، ولا أدل على ذلك مما أفرزته أمطار الخير الأخيرة التي خلقت، فضلا عن الخسائر البشرية، قلقا عميقا لدى المواطن الذي تعترضه في كل حي وشارع وزنقة حفر إذا نجا هو من عواقبها، فإن سيارته قد تلحق بها خسائر مادية بلا شك. ونظرا إلى وجود أدلة وأمثلة كثيرة، نقتصر على ما وقع بحي مابيلا بالرباط وحوالي عشرة أمتار من شارع محمد السادس الذي يعتبر أكبر شارع وأطوله بالعاصمة الإدارية، حيث يفاجأ سائقو السيارات بحفرة وسط الطريق نتجت عن انهيار أرضي. والأغرب من هذا أنه وقعت خلال الصباح داخل هذه الحفرة سيارة عرضت القنوات الوطنية صورها في نشرات أخبارها بينما في المساء اتسعت مساحتها لتبتلع بدون مبالغة حافلة للنقل الحضري (طوبيس)، إلا أن المسؤولين «جازاهم الله خيرا» تدخلوا وأغلقوا الطريق في هذه المنطقة من الجهتين تفاديا لما لا تحمد عقباه. إلا أن الذي ينبغي طرح عدة أسئلة بشأنه ولا تنفع معه الأعذار والمبررات هو ما وقع بالطريق السيار الرابط بين البيضاءوالرباط والذي شلت فيه حركة السير لفترة طويلة على إثر أمطار الخير التي تهاطلت على المملكة مؤخرا، وليس لي الحق في التعليق على هذه الوضعية الأخيرة لأن الطريق السيار مؤدى عنه ومداخيله لا تعد ولا تحصى ويفترض أن يكون أنجز وفق مواصفات جودة دولية وضمانات للصلاحية على مدى سنين. وما ينطبق على المثلين أعلاه ينطبق على مجموعة من المشاريع المجتمعية، ومن ذلك إصلاح القضاء الذي يلاحظ أنه قد شرع في إعداد مشاريع قوانين خاصة به قبل إعداد العنصر البشري والاهتمام به وتحفيز من يستحق ودفع الشباب إلى تولي مناصب المسؤولية في إطار ضح دماء جديدة في دواليب الإدارة من شأنها الدفع بعجلة الإصلاح الذي نادى به ملك البلاد وإحالة من تجب إحالته على التقاعد عند الاقتضاء أو تكليفه بمهام أخرى قد يجدي فيها أكثر بدل إبقائه لأزيد من ربع قرن في مركزه، لأن كسب الحرب لا يتأتى فقط بالخطط والاستراتيجيات وإنما ينبني على إرادة العنصر البشري بالدرجة الأولى ومدى استعداده لتطبيق هذه الخطط والاستراتيجيات على أرض الواقع. ولا شك أن المغرب به رجال لديهم إرادة قوية واستعداد منقطع النظير للدفع بهذا البلد إلى الأمام. وهكذا يلاحظ أن المثل المشار إليه أعلاه حاضر في جل مشاريعنا رغم أن ترتيب الأولويات وهندستها من أسباب نجاح أي مشروع كيف ما كان نوعه، لأن الحياة إرادة واختيار، والإرادة فعل، والاختيار وعي عقلاني وعزم على التغيير والتجديد، فبدون إرادة واختيار وإتقان ستبقى مشاريعنا وآمالنا تتأرجح في فلك مغلق، وسنبقى نكرر السؤال أجيالا وراء أجيال: لماذا تخلفنا وتقدم غيرنا؟