ودعنا، كغيرنا من المسلمين في أنحاء العالم، سنة هجرية بما لها وما عليها، ونستقبل سنة أخرى تستلزم منا لحظة تأمل وتقييم لمسارنا كأمة واستشراف لما ينتظرنا من تحديات في عالم يشهد تطورات سريعة ومتلاحقة ويعرف إعادة رسم لخريطته وتجديدا لتموقعات كل الفاعلين فيه. ولعل من حكم الله تعالى أنه جعل مسك ختام السنة موسم الحج الذي يشكل محطة جامعة يلتقي فيها المسلمون، بمختلف ألوانهم وأجناسهم وأعمارهم ولغاتهم، على قلب رجل واحد ليؤكدوا أنهم أمة واحدة كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا وكالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وليتدارسوا أحوالهم وأحوال أمتهم لأن الحج مؤتمر عام تكون فيه القلوب متشوقة والعقول مفتوحة والجوارح مستعدة لفعل كل ما تحتاجه الأمة الإسلامية لتنهض من جديد من سباتها العميق. فأين نحن من هذه المعاني؟ أول ما يتبادر إلى ذهن كل مسلم هو الحالة الكئيبة التي تعم مختلف دول العالم الإسلامي، وفي المقدمة طبعا الدول العربية، حيث نستقبل سنة جديدة على إيقاع طبول حرب تقرع ودماء تسفك وأرواح تزهق وثروات تنهب، وعلى وقع حملة عالمية تستهدف تخويف الكل منا بدعوى أن إسلامنا مرادف للهمجية والإرهاب والتخلف، وعلى وقع صراعات بينية أو داخل نفس الدولة، مما يؤكد أننا أمة مفعول بها وغير قادرة على استثمار نقط القوة التي تملكها لتصبح فاعلا في عالم الكبار. وأول ما يستدعي النظر هو هذا الاحتلال الأجنبي في أفغانستان والعراق الذي مزق وحدة البلاد ونهب ثرواتها وقتل أبناءها ودمر بنياتها ووقف سدا منيعا ضد كل محاولات لم الشتات. ثم هناك هذه الدول المتصارعة في ما بينها، حيث لا تخلو الساحة من مناوشات على الحدود بين بعض الدول، كما هي حالة اليمن والسعودية.. أما العلاقات بين البعض الآخر فقد وصلت إلى أحط درجة يمكن تصورها، وخير مثال علاقات المغرب والجزائر التي لم تستقم بعد على حال، وتدفع الشعوب المغلوبة على أمرها ثمن خلاف لا يستحضر قيمة المنطقة المغاربية والتحديات التي تنتظرها والإمكانات المتاحة لها إن هي استوعبت مستلزمات هذه اللحظة، واغتنمت الفرص الممكنة، وسعت إلى بناء اتحاد مغاربي موحد ومتنوع وقوي يمكن أن يشكل قاطرة لوحدة عربية وصمام أمان ضد نوازع التطرف المتزايدة في المنطقة وشريكا وازنا للضفة الأخرى التي لا تفهم إلا لغة القوة والمصلحة. مشكلتنا الحقيقية أننا نودع هذه السنة، مرة أخرى، على إيقاع حرب داخلية في اليمن يتوقع أن تعيد التشكيك في جدوى الوحدة التي شهدتها البلاد منذ أزيد من عقدين، وهي الوحدة التي لم توقف نيران الحرب في هذا البلد منذ ذلك الحين.. ويمكن أن نحصي، على الأقل، سبعة حروب داخلية عرفتها اليمن منذ ذلك التاريخ. على هذا المستوى، يمكن أن نقارن وحدة اليمن بوحدة الألمانيتين، وحتما سنفهم الفارق.. وستكون استفادتنا أكبر إن عرفنا أسباب فشلنا وأسباب نجاحهم. نودع هذه السنة والسودان على أبواب استفتاء وُضعت كل التدابير لتكون نتيجته تقسيم هذا البلاد، وحتما ستكون لذلك نتائج وخيمة على المنطقة بكاملها. ونودع هذه السنة وقد بلغ الخلاف الداخلي في العراق ولبنان مرحلة تهدد وحدة البلاد وتنذر بحرب أهلية طائفية قد تشعل حربا إقليمية بسبب امتدادات أطرافها في الإقليم كله. ولا يمكن تفويت هذه المناسبة دون الحديث عن تمنع الديمقراطية في بلداننا العربية التي شهدت انتخابات مزورة في أكثر من بلد، مثل مصر التي اختلطت فيها أجهزة الدولة بالحزب فولدت نظاما سياسيا مستغنيا عن الجميع. والمثير أن تمنع الديمقراطية هذا يقتصر على المنطقة العربية ومفقود في بلدان إسلامية أخرى، وقد عايشنا خلال هذه السنة انتخابات تركيا التي كانت قمة في الشفافية والنزاهة والإقبال الشعبي. هذه ملاحظة تعيد ذاكرتنا إلى الوراء كثيرا لنفهم دور الأعاجم في نشر الإسلام وخدمته، فنتذكر أن أغلب العلماء والمفكرين كانوا أعاجم! ونودع هذه السنة على إيقاع تعيس بعد تزايد الأنباء عن رغبة بنعلي في الترشح لولاية أخرى رغم تعارض ذلك مع الدستور، وتواتر الأنباء عن رغبة مبارك في توريث الحكم لابنه جمال، وتزايد أطماع نجل القذافي في الحلول محل والده. ولعل هذا الإصرار على الحكم بهذه الطرق التقليدية هو الداء العضال لهذه الأمة، وعنه تفرعت باقي الأمراض. الكل يشد على ناصية الحكم بالنواجذ بسبب غياب المسؤولية والمحاسبة والرقابة الشعبية. ونودع هذه السنة وفلسطين ما تزال رهينة احتلال صهيوني ييسر له الطريقَ صمتٌ عربي رسمي وتواطؤٌ دولي، حيث التهويد يطول القدس الشريف والاستيطان يتسع مداه والخلاف الفلسطيني طال أمده. باختصار، يمكن أن نقول إننا نودع سنة ونحن أسوأ حالا مما كنا عليه في السنة التي قبلها بسبب غياب إرادة التقارب لدى حكامنا وشلل المؤسسات الإقليمية التي يفترض فيها الدفع في اتجاه التقريب وتغييب رأي شعوب المنطقة وسقوط البعض في الفخ الاستعماري «فرق تسد» وعدم استيعاب البعض لمتطلبات الوجود في عالم لا يتكلم إلا لغة القوة والمصلحة.. والطريق إلى ذلك هو التحصّن في تكتلات إقليمية قوية ومنسجمة. يخرج الحجاج من موسم الحج بذنب مغفور وسعي مشكور كيوم ولدتهم أمهاتهم، ونرجو أن نستقبل سنة جديدة ووراء ظهورنا كل الإخفاقات والانكسارات متشوفين إلى غد قريب نسترجع فيه عزتنا وقوتنا ووحدتنا حتى نصبح خير أمة أخرجت للناس، وأمة وسطا، وأمة قائمة شاهدة بالقسط. لن ننال ذلك بالتمني لأن العاجز هو الذي يتبع نفسه هواها ويتمنى على الله الأماني.. ولكن ننالها بحسن التوكل على الله واتخاذ الأسباب، وأولها التسلح بسلاح الإيمان واليقين في ذواتنا والعلم بطريق نهوض الأمم من كبواتها وتجاوز محنها والاستفاقة من نومتها، وقد طالت نومة هذه الأمة أكثر من اللازم، وهي التي تمثل ربع سكان العالم وتتوفر على القسط الأكبر من خيرات وثروات المعمورة ويجمع أعضاءها أكثر مما يفرقهم. فماذا ينقصها، إذن؟ ينقصنا حكام يغلبون مصالح الأمة ونخب تمارس دورها الحقيقي في توعية الشعوب واقتناع بأن لا قوة لنا إلا بوحدتنا. وحينها، سنوقف هذه الحروب البينية وسنتفرغ للجهاد الأكبر. جهاد البناء.