تداول على المشاركة في الحكومات المغربية العديد من الوزراء، لكل منهم قصته الخاصة في كيفية الوصول إلى مقعده في الوزارة، من خلال مساهمة كل واحد في النشاط السياسي للبلد سواء من داخل أحزاب الحركة الوطنية وامتداداتها في الساحة السياسية، أو من خلال الانتماء إلى عائلات مخزنية تاريخيا، أو عبر بوابة التكنوقراط الذين حفل بهم المشهد السياسي المغربي على طول تاريخه، في هذه الحلقات نحاول تتبع خيوط التاريخ السياسي للمغرب من خلال تاريخ بعض وزرائه الذين بصموا الحياة السياسية للبلد. لو تصور الشيخ المكي الناصري أنه سيأتي يوم يصدر فيه أمر بتوقيف بث تفسيره للقرآن الكريم على أمواج الإذاعة الوطنية، لما أقدم على ذلك أصلا، بل ربما أصدر فتوى ضد من يفكر في الإقدام على هذا العمل. غير أن ذلك حدث، ولم يعد المستمع المغربي يستيقظ صباحا على صوت الفقيه الصادح بالقول: عباد الله. عباد الله. حكى أحد قدماء العاملين في الإذاعة أنه لم ير الشيخ المكي الناصري، وهو يشرع في تسجيل تلك الحلقات، يحمل بين يديه ورقة أو كتابا. كان يكتفي بالتوقف بين حلقة وأخرى لشرب ماء يروي به ظمأه، ثم يواصل الكلام بلغة عربية سلسة وبليغة وذات حمولات غنية بالمعاني والدلالات. كان يضاهيه في الارتجال عالم آخر اسمه الحاج ناصر، كان بدوره يسجل برنامجا للإذاعة، دون أن يلقي أي نظرة على أوراقه. وحين كان يرتدي الجلباب يضع ورقة صغيرة في قبه، لكنه كان ينساها إلى حين الانتهاء من التسجيل، بل كان يقدم ذلك البرنامج بطريقة مباشرة حين يستعصي عليه التسجيل. بيد أن قوة الإفتاء لدى الشيخ المكي الناصري تكمن في أنه يستمدها من موقعه كرئيس لرابطة علماء المغرب، التي انتخبته بالإجماع، بعد أن غيب الموت رئيسها السابق العالم الكبير عبد الله كنون، الذي كان نموذجا فريدا في الجمع بين مجالات الثقافة الأصيلة والانفتاح والتواضع. العلم والشغف به وقوة الشخصية ونكران الذات كانت صفات تجمع بين فقهاء المغرب أمثال عبد الله كنون وعلال الفاسي والمكي الناصري. وإن اختلفوا في توجهاتهم وميولاتهم السياسية، فقد كانت الحركة الوطنية المرجعية التي التقوا عندها، إذ حاربوا الاستعمار بالقلم واللسان والتضحية، وكان نصيبهم سنوات طويلة من النفي خارج الوطن. غير أن المكي الناصري، الذي اختار المنفى من أجل استكمال الدراسة في جامعات القاهرة، سيحول منفاه إلى التزام سياسي واضح، عنوانه «الجهر بالحقيقة». كتب المكي الناصري عن الحقيقة في حربه ضد الظلامية والشعوذة والانحراف الديني، وحول مبادئها إلى سلوك نضالي في التصدي للاستعمارين الفرنسي والإسباني. وحين أكمل دراسته في جامعة الأزهر، ثم في جامعات عصرية في القاهرة، أدرك أن الفرنسيين يحيكون له مؤامرة لاعتقاله، فاتجه إلى سويسرا لينهل من نبع المعرفة القانونية العصرية، ثم عاد إلى الوطن لتأسيس حزب الوحدة، الذي ضم نخبا من الأقاليم الشمالية، وإن لم تسعفه الظروف في أن يصبح حزبا ذا نفوذ كبير، في غضون صراعات الأجنحة والتيارات، مثل أي تجربة نضالية في مراحل ما قبل الاستقلال. بعد حصوله على شهادة الباكالوريا في عشرينيات القرن الماضي، ذهب الطالب الناصري إلى القاهرة يبحث عن منابع لإرواء المعرفة، فقد كان شغوفا بالعلم منذ صباه، واستطاع أن يتوج مساره الفكري بالتدريس في كبريات الجامعات المغربية، مثل دار الحديث الحسنية وكلية الشريعة في فاس وجامعة محمد الخامس بالرباط. في القاهرة واجهته صعوبات في الانتساب إلى جامعة عصرية، لذلك فقد انضم إلى رحاب الأزهر، ثم بعد ذلك تمكن من الانتقال إلى مدارك جديدة، بعد أن كان قد نهل المعرفة على يد كبار الباحثين وتتلمذ على يد طه حسين وعاش في أجواء المعارك الفكرية الأدبية، التي كانت تستخدم سلاح المعرفة. غير أنه، مثل رواد الحركة الوطنية، سيمزج بين تلقي العلم والتعريف بالقضية الوطنية. كان المكي الناصري سليل الزاوية الناصرية ذا شخصية قوية، وعلى الرغم من انحداره من مدرسة الزوايا، فقد شن حربا لا هوادة فيها على الانحراف الديني والفكري، وكان في مقدمة الكتاب الذين صدرت لهم دراسات وأبحاث في ثلاثينيات القرن الماضي، ثم أصبح عالما كبيرا. وبالقدر الذي تمكن من نزع الاعتراف بعالميته في الشؤون الدينية وتفسير القرآن والنهج على سلف جهابذة الاجتهاد، فإنه في الجانب السياسي تقوقع على نفسه أكثر، ولم يفلح في تحويل حزب الوحدة إلى تيار ذي نفوذ سياسي كبير. الظاهر أن عبد الخالق الطريس، الذي تبنى بدوره نزعة وحدوية شمال البلاد، للرد على محاولات تجزئة المغرب، في نطاق هجمة استعمارية فرقت بين الشمال والوسط والجنوب، فطن إلى ضرورة الانصهار في حزب الاستقلال، وكان تحالفه مع علال الفاسي مقدمة في سياق تحول كبير أدمجت فيه التيارات ضمن صوت واحد. وعلى عكس هذه التجربة، سعى الشيخ المكي الناصري إلى الحفاظ على حزبه الذي ارتبط بشخصيته أكثر من تأثره بالتجارب السياسية القابلة للحياة على مدى أطول. كان المكي الناصري يصدر صحيفة كلما ساعدته الظروف على ذلك، ويحرص على أن تتضمن افتتاحية يكتبها باسمه للدلالة على استمرار وجود حزبه، فقد خاض من خلالها معارك فكرية وسياسية. إلا أن الطابع المميز لخرجاته لم يكن يخلو من نبرات دعوية وإرشادية، فقد كان يغلب عليه العالِم أكثر من السياسي. وقد استغرب الفقيه الناصري يوما لطالب في مدرج الكلية اتهمه بأنه شيوعي. كان الفقيه يتصور أن ينعته طالبه بأي صفة إلا أن يكون عضوا في المدرسة الشيوعية. ربما كان ذلك الطالب قد تعمد العزف على التناقض القائم بين الفكر السلفي وأدبيات الماركسية اللينينية. لكن الفقيه غضب لذلك كثيرا، فقد كان معتزا بشخصيته الفكرية أيما اعتزاز. وروى مقربون إلى الشيخ الناصري أنه غضب كثيرا أثناء تعيين أعضاء المجلس الاستشاري الوطني في مطلع الاستقلال، والذي كان بمثابة برلمان، في انتظار إقرار أول دستور للبلاد. أما مصدر غضبه، فيكمن في اختيار الراحل محمد داوود ضمن مكتب الرئاسة، على أساس أنه يمثل العلماء. لم تكن هناك عداوة بين الرجلين، لكن الناصري كان يرغب في ربط وجوده بالمجلس الذي كان يترأسه المهدي بن بركة بصفته العلمية، ولعله بسبب ذلك اختار الانضمام إلى لجنة شؤون الميزانية، إلى جانب عبد الحي العراقي ومحمد الباعمراني واليهودي دافيد بن زراف وعلي الكتاني والهاشمي بناني وآخرين. كان يريد من وراء ذلك الاختيار التأكيد على أن حضوره في المجلس الاستشاري الوطني أملته اعتبارات الكفاءة والتجربة الغنية، فقد كان في وسعه أن يتحدث كعالم دين له باع طويل، وكرجل قانون له إلمام بالاجتهادات الوضعية، إضافة إلى امتلاكه قدرات في التدبير. غير أن تجربته في عالم السلطة، عندما شغل منصب عامل في أكادير، لم تكن مرضية، وقد سجلت ضده مؤاخذات من طرف فعاليات حزبية، رأت أن تدبيره اتسم بالمغالاة وتضييق الخناق على اتجاهات سياسية معينة. هل كانت تلك هفوة العالم أم أن السلطة مثل الشيطان تزين بعض الأفعال التي لن يخسر المرء شيئا إن لم يستسلم لها مفتوح العينين أو مغمضهما؟ على أي حال، فإن تدبيره لملفات كان جزءا من معالم مرحلة اتسمت بكثير من الغليان وردود الأفعال، وكان اختياره لتولي تلك المسؤولية يتدرج في إطار صراع سياسي أكثر منه تدبيرا عاديا للشأن المحلي. كان يحلم بالعودة إلى القاهرة، لولا أنه تم اختيار رجل وحدوي آخر من أبناء الشمال لشغل هذا المنصب، في شخص الزعيم عبد الخالق الطريس. وحين أسعفته الظروف للالتحاق بالعمل الدبلوماسي، عين سفيرا للمغرب في ليبيا على عهد الملك السنوسي، قبل أن ينقلب عليه العقيد معمر القذافي. واتسمت إقامته هناك بجهود في التعاون الثنائي، فقد كانت علاقات البلدين خالية من المشاكل والخلافات، وجاء تعيينه هناك مقابل تنامي نفوذ الزعيم المصري جمال عبد الناصر. فقد كان الشيخ المكي الناصري صاحب طروحات متشددة، بالنظر إلى توزع المواقف على الخارطة العربية آنذاك، إذ كان المغرب قد اختار حلفاءه في المشرق العربي من غير داعمي التجربة الناصرية، خصوصا في ظل الخلافات التي ستأتي بين المغرب وجمهورية مصر العربية على صعيد التعاطي مع أزمات الشرق الأوسط وموازين القوى في منطقة شمال غرب إفريقيا. بيد أن الشيخ المكي الناصري، الذي سيتقلد مناصب سامية في مؤسسات دستورية تعنى باستمرارية الدولة، وسيعين وزيرا للأوقاف والشؤون الإسلامية والثقافية في نونبر 1972 في حكومة أحمد عصمان، خلفا للحاج أحمد بركاش في الأوقاف، والدكتور الحبيب الفهري في الثقافة، التي كانت تضم كذلك قطاع التعليم الأصيل والثانوي والعالي، قبل أن يخلفه الداي ولد سيدي أبابا في الشؤون الإسلامية والحاج محمد باحنيني في الشؤون الثقافية في أبريل 1974. كانت الفترة منطبعة بتنامى ظاهرة الحركات اليسارية من جهة، والإسلامية من جهة ثانية، لكن دور الناصري راعى المزج بين الروافد الروحية والانفتاح على الثقافة العصرية، بالنظر إلى مرجعيته المتنوعة، وإن كان وجد نفسه أكثر في التنظير الإسلامي، الذي كان يركز على تجديد مسؤوليات الاستخلاف في الأرض، وكانت دعواته من أجل التجديد تجد مداها عبر مفهوم ديني أكثر انفتاحا. وكانت ميزة الشيخ الناصري أنه يجمع بين التأصيل والتجديد، قبل أن يعاود الانصراف إلى عالم التدريس الجامعي، بيد أنه ظل من بين القلائل الذين كان الملك الراحل الحسن الثاني يستأنس باستشارتهم في أمور دينية ودنيوية، فقد كان ولعه بالقانون لا يضاهيه إلا الإصرار على تماسك الشخصية المغربية، وكان يجد في اجتهادات الشيخ الناصري ما يعزز هذا التوجه، فقد كان واحدا من مهندسي صبغة الدروس الحسنية التي تلقى في شهر رمضان الفضيل، خصوصا في مرحلتها الأولى، فقد كانت قبلة لتنافس العلماء، المغاربة والمشارقة، وتعتبر دروسه، إلى جانب العالمين الجليلين علال الفاسي وعبد الله كنون، من بين مرجعيات هامة في بلورة مفاهيم إسلامية متقدمة، وإن كانت تحدث خلافات حول مدى تسييسها أو خضوعها لجدل المرحلة. الذين صنفوا الشيخ الناصري ضمن رواد الحركة الوطنية لم ينصفوه كذلك لأن عطاءه استمر في مرحلة بناء الاستقلال، وإن كان قد لعب دورا بارزا في التعريف بالقضية المغربية في المحافل الدولية. والذين يصنفونه في خانة الزعماء السياسيين لم ينصفوه كذلك، لأنه جمع بين الزعامة السياسية والفكرية وخصائص الاجتهاد والانفتاح. والذين يحصرون مجالات تخصصة وعطاءاته في التدريس والأبحاث ومشارب التنوع الفكري، سيمنحونه حقه كواحد من الأقطاب، الذي كان لا يعترف بغير سلطان العلم. ولعله من خلال هذه الخصال، شكل نموذج المثقف المغربي، الذي كان مثل العملة القابلة للتصريف في أي مجال، ومع أنه كان أقرب إلى علماء السلطان، فإن علمه كان يفوق التصنيف السياسي، فقد كان مغربيا بامتياز، لم يدخل في قناعته أن هناك شيئا مستحيلا. ورحم الله ذلك القائل إن المستحيل ليس قاعدة مغربية.