يكاد لا يمر يوم دون أن نرى صورته أو نسمع اسمه أو اسم التنظيم المنسوب إليه، «القاعدة». قليل الظهور، كثير الحضور، يهدد ويتوعد، يفجر ثم يختفي. من هو هذا الرجل الأسطوري؟ من أين أتى؟ أين نشأ وعلى من تتلمذ؟ لماذا تحالف مع الشر وعاد ليحاربه؟ ما هي تفاصيل حياته السابقة لاحتراف «الجهاد»؟ من هو أسامة الإنسان؟ في العام 1989، وعندما كان أسامة بن لادن يستعد لجمع أغراضه من بيشاور، والبحث عن موطن جديد لمقاتليه. وعندما كان فكره موزعا بين إسقاط النظام الماركسي باليمن الجنوبية، والاستعداد لمواجهة الغزو العراقي المرتقب للكويت ثم العربية السعودية (في أسوأ الأحوال)، كان رجل من الضفة الجنوبية للبحر الأحمر الفاصل بين جزيرة العرب والقارة السمراء، ينسج شباكه ل«الإيقاع» بعملاق الجهاد الآخذ في التعاظم (القاعدة). لذلك كان ثلاثة ممن يوصفون بعملاء المخابرات في الجبهة الوطنية الإسلامية، التنظيم الإسلامي المتفرع عن الإخوان المسلمين في السودان، يقومون بزيارة استطلاعية لبيشاور؛ محاولين استكشاف رأي أسامة بن لادن في اقتراح شيخهم السوداني، الداهية المسن حسن الترابي، لبحث إمكانيات إقامة تحالف ما. الزيارة الاستطلاعية لمعسكرات بن لادن، جاءت شهورا قليلة بعد الحدث السياسي الذي غير وجه السودان الحديث، هذا البلد الإسلامي العربي الإفريقي الشاسع المساحة، والذي فصله الاحتلال البريطاني بصعوبة بالغة عن أرض الكنانة. فعام 1989 هو موعد قيام ضباط من الجيش بالثورة والاستيلاء على الجيش. لكن في خلفية الصورة كان يقبع الشيخ الداهية حسن الترابي. فارتباط الثورة بالجبهة الوطنية الإسلامية، والتنسيق القبلي والبعدي بين الجانبين لا غبار عليه. لكن الغريب في موعد ميلاد الثورة أن الشيخ حسن الترابي كان قابعا في السجن ومكث فيه شهورا حتى بعد قيامها. الروايات تتناسل لتتقاطع في أن هذا البلد الهامشي في الرقعة السياسية العربية، قد أنتج ابتكارا جديدا في قاموس الانقلابات الثورية الإفريقية. ذلك أن هذا الشيخ الذي كان حينها يشارف على عقده السادس، ابتكر أسلوب استفزاز السلطات ودخول السجن كلما كانت الجبهة مقدمة على أمر خطير، حتى إذا لم تنجح الخطة كان من شبه المستحيل اتهامه ومن ثم اقتطاف رأسه اليانعة. «هو (الرئيس عمر حسن البشير) ذهب إلى القصر وأنا ذهبت إلى السجن، حتى لا تتعرض الحركة للخطر»، يقول الترابي في مقابلة أجراها في عام 1999. لكن أحلام الشيخ لم تكن لتقف عند الحدود المترامية للسودان، بل إن المشروع الإسلامي الشامل كان يشغل بعضا من تفكيره، إن لم يكن لأغراض الهيمنة فلقناعة راسخة بضعف الإمكانيات الذاتية، وبالتالي الحاجة إلى التوسع للحصول على حلفاء يشتركون في ذات الطموح. مكر السياسة وسخرية الأقدار، جعلا كلا من السودان الجديد ومعسكر أسامة بن لادن في شبه مواجهة بعد وقت قصير، من خلال حرب الخليج الثانية التي بدا فيها بن لادن خصما لدودا لصدام حسين، إلى درجة الاستعداد لإعلان الجهاد ضده؛ بينما كان السودان من البلدان العربية القليلة التي «ساندت» العراق، أو لم تدعم الحرب ضده على الأقل. وسبب الخلاف بين الترابي وأسامة هنا ليس فكريا ولا عقديا، بل يجد تفسيراته في العداء الذي كان يكنه السودان للعربية السعودية كدولة إسلامية خاملة مستسلمة؛ خسرت كل وزنها السياسي بتسليمها مفاتيح الخزائن للأمريكيين، وتكلّس فكرها الديني بارتكانها إلى المذهب الوهابي دون كثير اجتهاد. حسن الترابي كان يمزج هذه المعطيات مجتمعة، ليحلم بدولة سودانية إسلامية ديناميكية ورائدة، بتأثير وتوهج سياسي إقليمي يزاوج بين تحقيق المشروع الفكري الإسلامي وبلوغ الغايات السياسية. وأسامة بن لادن كان في أمس الحاجة إلى حقل جديد يستصلحه ويحرثه بجرافاته ويستزرع فيه مشروعه الجهادي المختنق بعد أفغانستان، أي أن الترابي يملك «الحقل» وأسامة يملك المال والرجال والعتاد. لذلك لم تتأخر الطائرة الخاصة لأسامة بن لادن عن الهبوط في الخرطوم قادمة من إسلام أباد، وعلى متنها زوجاته الأربع وأولاده والعديد من المقاتلين. وينطلق موسم «الهجرة» نحو السودان، ويتجدد سيناريو اللقاء في بيشاور بين أتباع جماعات إسلامية من مختلف المشارب المذهبية والفكرية. بل إن «الخلطة» الجديدة للترابي ظلت مستعصية على فك طلاسمها إلى الآن، إذ فتح نظام عمر البشير أجواءه أمام «أسراب» الراغبين في تجديد العهد باحتراف «الجهاد»، ليختلط أتباع القاعدة بالأفغان العرب وأعضاء الجهاد الإسلامي المصرية وحركة حماس، والمقاتلين الليبيين والجزائريين والمغاربة الطامحين إلى تكرار تجربة أفغانستان؛ بل إن مطار الخرطوم وسواحل البلاد كانت تستقبل بعضا من مقاتلي الحرس الثوري الإيراني سليل الثورة الإيرانية الشيعية. فالثورة الإيرانية كانت في مرحلة ما بعد الأوج، حيث رحل المرشد الأعلى للثورة ورمزها التاريخي، و«خسرت» البلاد حربها ضد العراق أو خرجت منها منهكة على الأقل، وكل محاولة، وإن كانت يائسة، لإظهار استمرار القدرة على «تصدير» الثورة ستكون مفيدة لصورة البلاد. واقع سياسي لم يكن الترابي ليضيع ما يمكن أن يجنيه منه من دعم بواسطة إمدادات نفطية من إيران تضاف إلى تلك القادمة من العراق؛ وفوق ذلك، صورة السودان الذي أخذ «يوحد» المسلمين حول فكرة الجهاد. «ربما كان بالإمكان، بعد غزو الاتحاد السوفياتي أفغانستان بعشر سنوات، أن يتفهم المرء افتخار حسن الترابي باستضافة صيغة أكثر احترافا وذكاء وخطورة مما كان قد بدا مجرد اجتماعات مرتجلة وبريئة في بيشاور، وباتت هذه الصيغة تُكسب الجهاد الإسلامي الراديكالي، الذي كان قد بدأ قبلئذ بستين عاما، شكلا ومضمونا جديدين. لقد سُمح للراديكاليين الأجانب أن ينصرفوا في السودان إلى ما شاءوا من العمل، لكن بشرط واحد: فالتزاما بالنهج متناهي السرية الذي وضعته لنفسها والتزمت تطبيقه الجبهة الوطنية الإسلامية، كان عليهم العمل بصمت ودون تظاهر. أهم ما كان مقصودا من هذا الشرط هو تجنب الاختلاط بالمواطنين السودانيين العاديين، وهم شعب اجتماعي فضولي كثير السؤال وذو باع طويل في كشف أسرار الدولة. إذا أخذنا في الاعتبار العمل السري الذي تساهلت حياله الجبهة الوطنية الإسلامية، فإن هذا الشرط الاحتياطي كان تصرفا حكيما، ذلك أن معظم السودانيين وإلى حد لافت فعلا، كانوا يجهلون الأسباب التي كانت وراء وجود هؤلاء الضيوف في بلادهم»، يقول الأمريكي جوناثن راندل.