قرأت بتمعن ما جاء في الملحق الثقافي لجريدة «المساء» في عددها ال1283.. العلاقة بين المثقف والسلطة علاقة متشنجة يشهد التاريخ على حيثياتها.. وذلك من خلال النماذج التي أبت الانخراط في دواليب السلطة، بشتى أشكالها. ويمكننا أن نذكر في هذا المجال جملة من النماذج الخالدة المتميزة بتمردها الثقافي، وبالخصوص ابن رشد وابن حنبل.. فرغم اختلاف التوجهات والأفكار عند النموذجين المذكورين، يبقى التمرد على السلطة والركون إلى الثقافة على حساب السلطة والمصلحة الفردية، واحدة من الميزات المشتركة بينهما. وهنا مكمن الفرق بين المثقف والإنسان العادي، فإن كان هدف هذا الأخير الأسمى هو الأمن والاستقرار الفردي وتوفير ضرورات الحياة، وإنْ على حساب الكثير من المبادىء الأكثر أهمية (الحرية، الديمقراطية،..)، وهذه من الأسباب التي لازالت تعرقل مسار الحرية والعدالة الاجتماعية في بلدنا، فإن المثقف يبقى في منأى عن هذا كله، لأن هدفه الأسمى والأزلي هو الحرية (فكرا وتعبيرا) وتكريس ثقافة الوعي بين مختلف فئات المجتمع، وإن كلفه الأمر أن يضحي بأمنه وبالحظوة التي قد ينالها بجانب السلطة. لنعد ونتفحص جيدا النموذجين اللذين أوردتهما آنفا، فالخلاصة التي يمكن الانتهاء إليها من خلال معاينة تاريخ التمرد (أستعمل مصطلح التمرد، لأنه أكثر تعبيرا وشيوعا في المعجم السياسي الحالي، وأقصد به التمرد الثقافي) سواء عند الفيلسوف والمثقف ابن رشد أو عند عالم الدين والمثقف ابن حنبل.. هي أن الأفكار اختلفت والمعتقدات تعددت، وقد تختلف أحيانا حتى المسلمات الفكرية.. لكن النكبة تظل واحدة، وهي الاستبداد وطغيان السلطة السياسية التي تمتلك القوة وتمارس العنف بشتى أشكاله في سعي إلى إرغام المثقف على الانزواء في كنفها وطلب حظوتها ونعيمها وأمنها.. والمقابل طبعا أن يلعب المثقف دورا رياديا في تمرير الكثير من المغالطات لتبرير أفعال السلطة السياسية، من خلال كتاباته، وأحيانا من خلال صمته المطلق، ليفقد بذلك صفتَه كحامل لرسالة ثقافية ومصداقيتَه لدى القارئ. فالمثقف هو المفكر وطليعة المجتمع فكريا واجتماعيا، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا وبإلحاح: ما موقع المثقف من السلطة؟ هل يكون انتهازيا؟ هل يقف في صف السلطة، يبرر تجاوزاتها، والمقابل مضمون؟ أم يقف في صف الشعب، يدافع عنه في وجه السلطة، والمجابهة لا مفر منها؟ أسئلة لا يمكن أن يجيبنا عنها إلا المثقف نفسه.. إلا أنه يمكننا أن نشرح الاختيارين من خلال مواقف بعض المثقفين المغاربة. إذن، كل هذه المغريات المذكورة تعرض نفسها في كامل زينتها على المثقف، وتضعه بين أمرين أحلاهما مر: إما الارتماء في حضن السلطة مقابل نيل رضاها وحظوتها والحصول على الأمن والشهرة المجانية.. لكن ينبغي ساعتها الاصطبار من جهة على سهام النقد، الذي يكون لاذعا، وعلى التشكيك في مصداقية ما يكتبونه من جهة أخرى، بل حتى التضحية بالكثير من حظوتهم الثقافية، وإلا فإن التناقض سيكون حاضرا في كيان المثقف، وهو أمر يمكن تعليله عند السياسي، لكنه محرم عند المثقف.. الاختيار الثاني تجسده ثلة من المفكرين والمثقفين، أمثال المرحوم عابد الجابري، المهدي المنجرة وعبد الله العروي.. هذا الطريق يضمن للمثقف حفظ اسمه في التاريخ الثقافي للشعوب، ويمنحه مصداقية حقيقية عند القراء.. وبمعنى أدق المثقف هو الذي يضحي بحفاوة الاستقطاب لدى السلطة السياسية، وينعزل عنها ليترك الهامش الذي يمكنه من انتقاد الحكم مدفوعا بالرغبة في تصحيح مساره، وخلق وعي ثقافي داخل فئات المجتمع.. ربما يكلف هذا الأمر كثيرا، لأن السلطة لا ترحم دائما من ينتقدها وينصب نفسه مقوما ل»اعوجاجها».. فالمواجهة حتمية، والنتائج قد تكون وخيمة. المواجهة بين السلطة والمثقف المتمرد قد تأخذ أشكالا متنوعة، قد تصل حد العنف والسجن والنفي، وقد تؤول إلى عزلة ثقافية وتهميش إعلامي، على غرار ما صنع إعلامنا المتجمد مع محمد عابد الجابري رحمه الله، كما قد تأخذ المواجهة أبعادا أكثر خطورة، كمنع المثقف من ممارسة أنشطته بما فيها الحديث والتواصل مع قرائه.. ربما على المثقف أن يكون هاويا، يحشر أنفه في كل شيء، كما يقول إدوارد سعيد، حتى يبعثر أوراق السلطة، فلا تجد طريقا لإيقافه واحتوائه، لكن يمكن للمثقف الانتهازي أن يستغل فكره في خدمة السلطة، وبذلك يكون قد اختار الطريق الأسهل، وفي كل الأحوال تبقى السلطة التي تجعل احتواء المثقف أو إزعاجه -إن لم تتمكن من احتوائه- من أولوياتها، هي تلك التي تفتقر إلى الشرعية ويضيق هامش الحرية والعدالة الاجتماعية لديها. هشام بناجي