-1 أكيد أن من يتحدث عن جماعة العدل والإحسان سيتحدث عن الأستاذ عبد السلام ياسين، لأنه مؤسس الجماعة وتمكن من بنائها تنظيميا، وهو الذي صاغ إيديولوجيتها، وكل أدبيات الجماعة مرتبطة بما كتبه ويكتبه الأستاذ عبد السلام ياسين. فالبناء التنظيمي للجماعة انطلق من التصورات المتضمنة في كتاب «المنهاج النبوي»، رغم حدوث تغييرات كبيرة في البناء التنظيمي للجماعة يقف وراءها مرشدها العام. من الملاحظات التي يبديها بعض المتتبعين لعمل الجماعة أن قيادتها لم تعمل على تطوير أدبيات ياسين، وكل ما كتبه أتباعها هو مجرد هوامش على المتن «الياسيني»، وسبب ذلك يكمن في إضفاء الأتباع طابعا كاريزميا عليه، فكثير من المواصفات التي أضفيت على الأستاذ عبد السلام ياسين جعلته يتمتع بوضعية خاصة لدى أتباع ومريدي الجماعة، قد تصل أحيانا إلى درجة التقديس، ولو أن الأستاذ عبد السلام ياسين ظل ينفي ذلك. «كاريزما» الزعيم في كل تنظيم، وليس فقط في جماعة العدل والإحسان، لها وجه سلبي وآخر إيجابي. فالوجه الإيجابي يتمثل في الحفاظ على وحدة ذلك التنظيم، بحيث يبتعد الأتباع عن الخوض في الخلافيات باعتبار مرجعيتهم موحدة. أكثر من هذا أن الطابع الكاريزمي للزعيم قد يؤجل أو يخفي كثيرا من الخلافات داخل التنظيم، وقد يلعب هذا الطابع دورا في تقوية اللحمة بين مكوناته. وبالمقابل، فإن هناك وجها سلبيا لهذه الكاريزما، هو أن هيمنة الزعيم لا تساعد على تكوين قيادات تملأ الفراغ الناتج عن غياب الزعيم عند وفاته. وقد لاحظنا أن كثيرا من التنظيمات التي تأسست على كاريزما الزعيم غالبا ما تنتهي إلى نوع من الضعف بعد اختفاء زعيمها، لكون القيادات البديلة لم يسمح لها بتشكيل مجالها الخاص الذي يميزها عن الزعيم، وتعمل على تهميش من حولها وتصبح القيادات الأخرى جانبية، ولا تمتلك المواصفات لخلافة الزعيم. ولتوضيح أكثر، فمن سلبيات كاريزما الزعيم مع كونه منتج إيديولوجية التنظيم الذي أنشأه أنه، بعد الغياب أو الاختفاء، تخضع أدبياته التأسيسية للتأويل، مما ينتج تعدد القراءات، وتعدد القراءات يؤدي في نهاية المطاف إلى الانشقاق والتشرذم. ولكن هنا يمكن التمييز بين مستويين: يتعلق الأول بالمستوى السياسي، فالقيادات السياسية تكون سلبياتها أكثر من إيجابياتها، أما في المستوى الثاني في التنظيمات الدينية، على غرار «الزاوية»، فيشتغل منطق آخر هو منطق «الشيخ والمريد». وأعتقد أن الطابع الكاريزمي يشتغل بنوع من الفعالية في سياق الزوايا والطرق، ولكن عندما نريد الانتقال من مستوى الزاوية إلى مستوى التنظيم السياسي وقتها يصبح الطابع الكاريزمي للزعيم الروحي عائقا في وجه تطور التنظيم. 2 - دائما تستحضر التنظيمات الإسلامية نموذج التجربة النبوية، فالدعوة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم انطلقت من دعوة الأقارب: الزوجة وابن العم والأصهار، وأحيانا لا تبتعد الجماعات الإسلامية المهووسة بإنتاج التجربة النبوية عن هذا الأسلوب. وعندما تتقوى الجماعة بعد التأسيس، نجد الأصهار والأقارب. وهذا المعطى يظل حاضرا حتى عندما تكبر وتتسع. ثم هناك معطى آخر، فعند الحديث عن أتباع جماعة العدل والإحسان، نجد أنفسنا أمام أشخاص تحكمهم دوافع متباينة للانضمام إليها، منهم من يرغب في تصحيح ما يعتبره انحرافا ومنهم من يبحث عن منافع وامتيازات. وعلينا ألا نتعامل مع الجماعة انطلاقا من بعض المنتمين إليها، لأنه عندما يخطئ بعض المنتمين إليها نحمّل الجماعة وزر ما اقترفه هؤلاء. وأعتقد أن هناك أشخاصا داخل الجماعة يبحثون عن مواقع، وقد انخرطت الجماعة في طرد بعض الأتباع، لأنها سجلت مخالفات ضدهم أو عدم التزامهم بمبادئها. فمادامت الجماعة مهتمة بالشأن العام وتطالب بمحاسبة المسؤولين أو إصلاح الأوضاع، فهي تنخرط في العمل السياسي. وفي العمل السياسي، أحيانا المصالح هي التي تحكم المواقف والسلوكيات، لذلك من حق قادة الجماعة أن يبلوروا خطابا مثاليا، وكذلك حصل مع القادة اليساريين في السابق، فهم يبلورون خطابا مثاليا ويشنفون أسماعك عند الحديث عن الديمقراطية والمدينة الفاضلة ومصلحة الشعب. ورأيي أنه في العمل السياسي يجب أن نترك الدين جانبا، وأن نبحث في صراع المصالح. وهذا «التشنج» الموجود بين الجناح التربوي والجناح السياسي محكوم بمصالح وصراع حول المواقع. وكل تنظيم سياسي من حقه أن يبلور إيديولوجية سياسية لا يمكن أن تكون فاعلة إلا إذا اعتبرت ما يقوم به أتباعها شيئا محمودا ومثاليا وما يقوم به الآخرون مستهجنا ومذموما. لنترك خطاب جماعة العدل والإحسان جانبا ونركز على عملها السياسي من خلال وضعه في سياقه العام في إطار ما يسمى ب«التدافع» كمصطلح إسلامي، أو الصراع حول المواقع والمصالح. -3 تبقى المراهنة على ضعف الجماعة بعد ياسين في المدى القريب مسألة مستبعدة، لأن الحضور القوي لياسين في حياته سيظل وهجه مستمرا ويشكل قوة لتتشبث الجماعة بتراثه إلى حين. ويمكن على المديين المتوسط والبعيد أن تظهر داخل الجماعة «قراءات» لأدبيات ياسين، وقد تكون متناقضة، تضفي المشروعية على اختيار معين أو انشقاق. كما علينا أن نأخذ بعين الاعتبار تفاعل مجموعة من العوامل الأخرى، مثل موقف السلطة وهل تساعد الجماعة على الاندماج؟ وموقف النخب السياسية والثقافية في المغرب من الجماعة، هل سيضعف التيار الاستئصالي ليحل محله تيار يؤمن بالاختلاف ويحترمه ويعترف للجماعة بحقها في التعبير عن تصوراتها في ظل ثوابت الدولة؟ والمسألة الثالثة: هل سيضمن خليفة ياسين التعايش، ولو «الهش»، بين الجناح السياسي والجناح الدعوي؟ وهذا إشكال حقيقي مطروح حاليا لدى الجماعة وإن لم يتضح بشكل ملموس، وبالتالي مستقبل الجماعة سيكون مرتبطا برؤية الدولة للجماعات الإسلامية، ومنها العدل والإحسان، وموقف النخب السياسية والمثقفة من جهة ثانية، وقدرة خليفة ياسين على ضبط هذه الأوتار داخل الجماعة. واليوم عندما يتحدث قادة الجماعة نجدهم يتحدثون لغة واحدة، لكن بعيدا عن التصريحات الرسمية، يجد المتتبع لعمل الجماعة من يبدي استياءه وملاحظاته على ما يجري داخلها. -4 غالبا ما يلجأ المناهضون لجماعة العدل والإحسان، عندما يريدون إبراز الوجه المتشدد للجماعة ، إلى الإحالة على ما ورد في «المنهاج النبوي». أكيد أن هذا الكتاب (المرجعية) يتضمن الأسس العامة للجماعة، ولكن ينبغي أن نطرح سؤالا حقيقيا في هذا الصدد: ماذا تبقى الآن من «المنهاج النبوي»؟ فعلى المستوى التنظيمي، تطورت البنية التنظيمية منذ بداية الثمانينيات تطورا كبيرا بالقياس إلى ما جاء في المنهاج. ولذلك، نستطيع القول بأن ما يشكل جوهر المنهاج اليوم هو التربية، ثم إن الاعتماد على أدبيات الجماعة في بداية نشأتها للحكم عليها الآن يغيب معطى أساسي هو التطور الذي حصل في مواقف الجماعة. في العمل السياسي، تكون عملية المراجعة أحيانا بطريقة غير مباشرة، ومثال ذلك الرسالة التي وجهها الأستاذ عبد السلام ياسين إلى الملك محمد السادس (مذكرة إلى من يهمه الأمر)، يخطئ من يعتبرها امتدادا لرسالة (الإسلام أو الطوفان) وتجسيدا للخط المتشدد للجماعة. فالرسالة، على العكس من ذلك، تعكس بامتياز هذا التحول والتطور في مواقف الجماعة، فهي تخاطب الملك محمد السادس باعتباره ملكا شابا ونظيفا، ولا تفعل أكثر من مطالبته بتصحيح بعض الاختلالات التي قام بها سلفه. وهذا اعتراف من الأستاذ عبد السلام ياسين بشرعية المؤسسة الملكية، بل إن الرسالة لا تقدم الجماعة باعتبارها جماعة زاحفة على السلطة، وإنما جماعة تمثل قوة اقتراحية بإمكانها أن تساعد على إصلاح الأوضاع، بالإضافة إلى إعلان الرسالة موقفا واضحا من الديمقراطية، إذ تقبل منها بعدها المسطري المتمثل في الاحتكام إلى صناديق الاقتراع، وترفض بعدها الفلسفي المتمثل في العلمانية، وتتقاطع في ذلك مع ما صرح به الملك محمد السادس لجريدة «إلباييس» الإسبانية في يناير 2005 حين قال إن المغرب ليس دولة علمانية ولن يكون كذلك. باعتبار أن «المنهاج النبوي» مرجعية تؤطر مسلكيات الجماعة، كانت هذه المرجعية تتضمن ما هو مجمل أو عام، ولذلك يمكن اعتبار الكتابات التي أعقبت «المنهاج» تفصيلا أو تخصيصا لما ورد فيه، ومن ثمة فلا يمكن قراءة «المنهاج النبوي» بمعزل عن هذه الكتابات التي صدرت بعده.