أشهر محمد الدويري وثيقة في وجه خلفه في وزارة المالية إدريس السلاوي، وشرع في عرض أرقام ذات طابع رسمي للدلالة على تراجع القطاع وعدم وفاء الحكومة بالتزاماتها. حدث ذلك في مواجهة تلفزيونية مباشرة في عام 1963، إلا أن إدريس السلاوي بدل أن يواجه انتقاد الوزير السابق في الاقتصاد والمالية بحجج بديلة، انقض عليه ونزع تلك الوثيقة من بين يديه، ثم صاح في وجهه بما معناه «هذه وثيقة رسمية، وليس من حقك أن تستعملها وأنت لم تعد وزيرا»، ثم سأله كيف حصل عليها. في خلفيات الحادث أن إدريس السلاوي كانت له ميولات أقرب إلى التعاطف مع الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ولم يكن مرتاحا لتزايد نفوذ حزب الاستقلال في تلك المرحلة، بل إن خصومه من بين الاستقلاليين وغيرهم كانوا يؤاخذونه على أن الفترة التي تولى فيها كتابة الدولة في الداخلية مكنت الاتحاد الوطني من حيازة المرتبة الأولى في الانتخابات الجماعية الأولى في التاسع من ماي 1960، قبل إقرار أول دستور لعام 1962. ولم يتقبل حزب الاستقلال تراجع حضوره إلى مرتبة أدنى، خصوصا في ضوء استمرار تداعيات انشقاق 1959. لم يكن السلاوي يخفي تعاطفه مع الاتحاد الوطني، مثل المستشار عبد الهادي بوطالب، لكن الحسن الثاني كان مهتما بإقامة توازن دقيق في محيطه الأقرب، وإن كانت مسامعه تنصت أكثر إلى كلمات صديقه الأشد قربا والتصاقا به: أحمد رضا اكديرة، وكان يعنيه أن يكون في صورة ما يتفاعل داخل أحزاب المعارضة، حيث لا يقتصر على قراءة التقارير الأمنية، وإنما يهيم في اتجاه التحليلات السياسية، حتى حين يختلف معها. ثلاثة على الأقل من مستشاري الملك الراحل الحسن الثاني ستتردد أسماؤهم في الحكومات الأولى التي أعقبت استقلال البلاد، وهم عبد الهادي بوطالب، الذي شغل في الحكومة الأولى منصب وزير الشغل والشؤون الاجتماعية وكان محسوبا على حزب الشورى والاستقلال، ومحمد عواد، كوزير للبريد والتلغراف والتلفون، وأحمد رضا اكديرة، الذي عمل وزير دولة باسم حزب الأحرار المستقلين. لكن عميد الشرطة، الذي كان يقيم في الدارالبيضاء في فترة أولى، إدريس السلاوي، سيظهر اسمه للمرة الأولى في حكومة الحاج أحمد بلافريج، إلى جانب وكلاء الوزارات، كاسم كان يطلق في بداية الاستقلال على كتاب الدولة، وهم محمد بوستة في الخارجية وأحمد بنكيران في التجارة والصناعة، والمهدي بن عبد الجليل في الإنتاج الصناعي والمعادن، ومحمد الطاهري في التعليم. وقد عهد إلى إدريس السلاوي في تلك التشكيلة بكتابة الدولة في الداخلية، وقبله جرى تعيين مستشار آخر، هو أحمد بن سودة، كاتب دولة في الشبيبة والرياضة. هذه الوقائع تعكس بوضوح كيف أن الملك الحسن الثاني اختار مستشاريه من بين الوزراء الأوائل في الحكومات المتعاقبة. وباستثناء أندريه أزولاي، الذي جاء من عالم المال والأعمال متأخرا، فإن مستشارا آخر هو علال سيناصر عمل بدوره وزيرا للثقافة في مطلع تسعينيات القرن الماضي، مما يعني أن ذلك الاختيار ركز على التمرس في قطاعات عمومية، وإن كان أكثر من تعاقب على المسؤوليات الحكومية هما عبد الهادي بوطالب وأحمد رضا اكديرة. وانضافت إلى ذلك صفة استقلالية الانتماء السياسي، بالرغم من أن بعض المستشارين كانت لهم تجارب في هذا النطاق، لكنهم غيروا علاقاتهم بأحزابهم وميولاتهم لدى توليهم المسؤوليات الاستشارية، ولم يقطعوا معها شعرات معاوية. هذا على الأقل ما كانوا يلوحون به للانسجام مع المهام التي يتولون القيام بها، لكن السرائر شيء آخر. وكم من مرة حرص أحد المستشارين على تزكية أو دعم فريق سياسي على حساب آخر، غير أن العلاقات بينهم ظل يطبعها التنافس، وأحيانا المناورات والوشايات الصغيرة للإيقاع بالبعض. ففي المحيط الأقرب، تحسب الأشياء والمواقف بالقدرة على تمثل ما يدور في أعلى درجات المسؤولية. سئل المستشار إدريس السلاوي، يوما، لماذا غضب في حق أحد الوزراء، الذي كان يعتبر من أبرز أصدقائه، فرد بالقول بما يفيد «أنا أنقل غضب الآخرين ولا أغضب». وإن كان الملك الراحل الحسن الثاني يكره استخدام كلمة الغضب، وكان يفضل الإيحاء بعدم الارتياح، أما حين كان يغضب، فكان يعبر عن ذلك برفض تناول طعامه. هذا التوجه عبر عنه مستشار آخر هو أحمد رضا اكديرة، فقد جاءه يوما وسيط ينقل رسالة من زعيم حزب التقدم والاشتراكية علي يعته، تتعلق بملابسات وقف صحيفة «البيان»، وقتذاك رد اكديرة بالقول إنه يتحمل بصفته مستشارا للحسن الثاني مسؤولية حجز «البيان»، وعزا سبب ذلك إلى أنه رغب في توجيه رسالة تحظر على الزعامات السياسية الإساءة إلى مستشاري الملك. لكن خلفيات الموقف تكمن في أنه أراد الإيحاء بأنه ليس في الإمكان تعريض حياة العاملين في محيط القصر إلى ذلك النوع من الانتقاد، الذي كان يعتبره مسيئا، فبالأحرى أن يفكر أحد في تعريض شخصية الملك إلى نوع من المؤاخذات. من بين المستشارين، سيتولى محمد عواد مسؤولية وزارة الدفاع في حكومة رئيس الوزراء عبد الله إبراهيم، خلفا لمحمد اليزيدي، بينما ستسند وزارة التجارة والصناعة والملاحة التجارية في الحكومة التي تلتها إلى إدريس السلاوي، وسيحتفظ ولي العهد الأمير مولاي الحسن بسلطات وزارة الدفاع. وحين عاد أحمد رضا اكديرة قويا في حكومة الملك الحسن الثاني، بعد اعتلائه العرش، وأسند إليه وزارتي الداخلية والفلاحة، كان إدريس السلاوي قد توارى إلى الخلف كي يعود وزيرا للأشغال العمومية التي كان يديرها الدكتور محمد بنهيمة. خلال هذه الفترة، عين أحمد عصمان للمرة الأولى وكيلا لوزارة الصناعة العصرية والمناجم والملاحة التجارية. حدث ذلك في يونيو 1961، حيث عين المفضل الشرقاوي وكيلا لوزراء الداخلية، غير أنه نتيجة استقالة وزراء حزب الاستقلال علال الفاسي ومحمد بوستة ومحمد الدويري، ثم زعيم حزب الشورى والاستقلال محمد بلحسن الوزاني، سيتم تشكيل حكومة جديدة يصبح فيها إدريس السلاوي وزيرا للمالية، والمحجوبي أحرضان وزيرا للدفاع، والدكتور عبد الكريم الخطيب وزير دولة مكلفا بالشؤون الإفريقية. مثل المستشار أحمد رضا اكديرة، الذي جمع قطاعات عديدة تحت سلطته، كالفلاحة والداخلية، سينضاف الاقتصاد إلى وزارة المالية ثم الفلاحة إلى صلاحيات إدريس السلاوي، في حكومة الحاج أحمد اباحنيني التي تولى ضمنها اكديرة حقيبة الخارجية، على خلفية حرب الرمال المغربية الجزائرية لخريف 1963. وسيصبح أحمد بناني، الذي شغل منصب والي بنك المغرب لسنوات عدة، كاتب دولة في التجارة والصناعة العصرية. لكن إدريس السلاوي، مثل رفيقه في الهيئة الاستشارية بالديوان الملكي، سيغادر المناصب الوزارية، ولن يكتب له أبدا مثل اكديرة أن يصبح أحدهما أو هما معا وزيرين أولين في أي من الحكومات المتعاقبة إلى أن غيبهما الموت تباعا. لم يكن اكديرة ذا تأهيل اقتصادي، كما لم يكن السلاوي يميل أكثر إلى الطروحات القانونية، فقد صادف أن الأول تمرس في مكاتب محامين فرنسيين في الرباط قبل استقلال المغرب، فيما الثاني درس في معاهد فرنسية، والتقيا عند ضفاف سلطة كانت تدار بالرموز والدلالات، أكثر من اللغة المباشرة. روى بعض مرافقي الملك الحسن الثاني، على متن الطائرة التي تعرضت لهجمات طائرات مغيرة في حادث المحاولة الانقلابية الفاشلة في غشت 1972، أنهم سمعوا كلاما غاضبا من إدريس السلاوي، أبدى فيه مخاوفه من أن تتعرض عائلته لليتم، وأضافوا إلى ذلك أن الملك الحسن الثاني كان يطمئن الجميع إلى أن الرحلة ستمر بسلام. ولم يعر، في غضون ذلك، أي اهتمام لتلك الانتقادات، فقد كان يعرف أن الضعف يمكن أن يتمكن من المرء في لحظات معينة، لم يكن يضع ما يصدر خلالها في الاعتبار. ابتعد إدريس السلاوي عن الواجهة ليقدم مشورات إلى شركات عربية وخليجية، ثم عاد إلى الواجهة في نهاية سبعينيات القرن الماضي، يوم حرص الملك الحسن الثاني على إقامة توازن دقيق بين مستشاريه، منهم من يتكفل بالملفات القانونية والاقتصادية والإدارية، ومنهم من ينشغل بالعلاقات مع أوربا والولايات المتحدةالأمريكية، في حدود ملفات معينة، ومنهم من يحاور البلدان العربية والخليجية. إلا أن إدريس السلاوي سيزاوج بين الملفات القانونية والسياسية، خصوصا في جانبها المتعلق بالحوار مع الزعامات السياسية، بالنظر إلى أن مواقف أحمد رضا اكديرة كانت تسبقه إلى أي نوع من المبادرة في هذا السياق. غير أن اسم إدريس السلاوي سيبرز قبل ذلك في مهمة دقيقة عندما تولى مسؤولية المندوب الدائم للمغرب في الأممالمتحدة، في النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي. كانت المرحلة صعبة ودقيقة، وكان ملف الوحدة الترابية للبلاد في طريقه إلى أن يصبح محور كافة الانشغالات. وفيما كانت الدبلوماسية تتحرك في اتجاه إسبانيا للضغط على حكومة مدريد في الهزيع الأخير من حياة الجنرال فرانكو، لتحقيق جلاء الإدارة والجيش الإسبانيين عن الساقية الحمراء ووادي الذهب، كانت معارك دبلوماسية من نوع آخر تدور في كواليس الأممالمتحدة. سيشكل انطلاق المسيرة الخضراء أبرز حدث في إدارة الصراع بطريقة سلمية انتزعت إعجاب وتقدير العالم، بما في ذلك خصوم المغرب الذين لم يدركوا كيف يمكن لبلد في حجمه (المغرب) أن يؤطر 350 ألف مواطن دفعة واحدة، ويحضهم على التوجه إلى فتح الصحراء التي كانت لا تزال تحت أسر الإسبان، دون أن يفقد السيطرة على زمام الأمور. من بين الضغوط التي تعرض لها المغرب لجوء الجارة إسبانيا إلى مجلس الأمن بغاية تقديم المسيرة الخضراء على أنها تهدد أمن إسبانيا. وحين طلب مجلس الأمن من المغرب التريث في إعطاء إشارة الانطلاق إلى أفواج المتطوعين في المسيرة الخضراء، رد الملك الحسن الثاني بأن المسيرة انطلقت فعلا، والماء لا يعود إلى منبعه، فما بين نيويوركومدريدوالرباط كانت خيوط الاتصال تبحث عن كيفية الخروج من وضعية الأمر الواقع التي فرضها المغرب في أكبر وأقوى ضغط دبلوماسي. ولم يكن للمسيرة الخضراء أن تتوقف إلا بعد أن حققت أهدافها. ما بين الديوان الملكي ومندوبية المغرب الدائمة في الأممالمتحدة، تم تولي مهام مستشار للملك الحسن الثاني، سيكون مسار تجربة إدريس السلاوي آل إلى وضعية مؤثرة في القرار السياسي. والظاهر أنه استخدم نفوذه مرات عدة، خصوصا في ظل العلاقة الودية التي كانت تربطه بالزعيم التاريخي للاتحاد الاشتراكي عبد الرحيم بوعبيد للإبقاء على جسور الاتصال والحوار ممدودة. وحتمت تطورات سياسية في المغرب، خلال مطلع تسعينيات القرن الماضي، أن يحدث بعض التفاهم بين المستشارين أحمد رضا اكديرة وإدريس السلاوي، أقله أن اكديرة أصبح ميالا إلى ربط التناوب بتولي الاتحاد الاشتراكي مسؤولية الوزير الأول وتشكيل الحكومة باقتراح منه، على خلفية التعديلات التي طرأت على الدستور في صيف 1996. غير أن أحدا من الرجلين لم يكتب له أن يعاين ميلاد تجربة حكومة التناوب، وذلك جزء من ارتدادات التاريخ.