تداول على المشاركة في الحكومات المغربية العديد من الوزراء، لكل منهم قصته الخاصة في كيفية الوصول إلى مقعده في الوزارة، من خلال مساهمة كل واحد في النشاط السياسي للبلد سواء من داخل أحزاب الحركة الوطنية وامتداداتها في الساحة السياسية، أو من خلال الانتماء إلى عائلات مخزنية تاريخيا، أو عبر بوابة التكنوقراط الذين حفل بهم المشهد السياسي المغربي على طول تاريخه، في هذه الحلقات نحاول تتبع خيوط التاريخ السياسي للمغرب من خلال تاريخ بعض وزرائه الذين بصموا الحياة السياسية للبلد. عندما قال الملك الحسن الثاني أمام أعضاء اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال: «رحم الله السي علال، والله يجعل البركة في السي بوستة» كان واضحا أن خلافة الزعيم التاريخي للحزب علال الفاسي، الذي وافته المنية في بوخاريست في الرابع عشر من ماي 1974، لن تكون خارج القيادة الشرعية. كان محمد بوستة قد رافق علال الفاسي في رحلة بدأت من الكويت وانتهت في رومانيا، في إطار مبادرة لطرح تطورات ملف الصحراء، قبل اندلاع الأزمة. وكان علال الفاسي حريصا على أن يزور دول المعسكر الشرقي، بالرغم من خلافاته الإيديولوجية معها، لحشد الدعم للقضية التي ظلت تؤرقه إلى يوم مماته، وحدث أنه لدى استقباله رسميا من طرف الرئيس تشاوسيسكو أصيب بأزمة قلبية حادة، لم تنفع معها الإسعافات التي تلقاها على عجل. جرت العادة أن قيادات الأحزاب السياسية تعزي الملك الحسن الثاني حين يغيّب الموت أحد زعمائها، وحين تقبل الحسن الثاني العزاء في وفاة الراحل علال الفاسي، أشار إلى القيادة بالحفاظ على الاستمرارية، التي كان يجسدها محمد بوستة، الذي سيتقلد منصب ثاني أمين عام للاستقلال بعد أحمد بلافريج، فقد كان علال الفاسي رئيسا للحزب وحافظ على تماسكه منذ انشقاق 1959، ولم ينظر الاستقلاليون، رغم وجودهم في المعارضة آنذاك، إلى إشارة الحسن الثاني أنها تروم التدخل في شؤون الحزب، بقدر ما اعتبرت دعما لخط الراحل علال الفاسي، الذي كان يقع عليه الإجماع داخل القيادة، وبالتالي فإن محمد بوستة كان مؤهلا لحمل المشعل، وستزكيه القاعدة في وقت لاحق ليستمر حوالي عشرين عاما على رأس حزب الاستقلال بدون منازع، تماما كما سيختار اللجوء إلى استراحة المحارب في الوقت الذي رأى أن دوره استنفد أو يكاد. غير أن الملك محمد السادس سيعيده إلى الواجهة مسؤولا في الحوار، الذي كان يدور بين فقهاء وخبراء وسياسيين حول قضايا المرأة في التشريع والمرجعية القانونية الملائمة للتطورات، قبل إقرار مدونة الأسرة، لكن بوستة أبقى على دوره في المهمة التي أنيطت به، ولم يرغب في إضفاء طابع سياسي على تلك العودة، التي كرست دوره فقيها قانونيا ينتمي إلى مدرسة علال الفاسي في «مقاصد الشريعة الإسلامية». سيظهر اسم محمد بوستة، للمرة الأولى، ضمن تشكيلة حكومية في يوليوز 1958، يوم عين وكيلا في وزارة الشؤون الخارجية، إلى جانب أحمد بنكيران في التجارة والصناعة وعبد الحفيظ القادري في الفلاحة وإدريس السلاوي في الداخلية ومحمد الطاهري في التعليم. كانت تلك الحكومة بقيادة أحمد بلافريج، الذي تولى في الوقت ذاته مسؤولية وزارة الخارجية، وكان عبد الرحيم بوعبيد نائبا له ووزيرا في الاقتصاد والفلاحة، وستتم ترقية بوستة في الحكومة، التي ترأسها الملك الحسن الثاني في عام 1961، إلى وزير الوظيفة العمومية والإصلاح الإداري، ثم صار وزيرا للعدل في الحكومة اللاحقة التي تولى فيها علال الفاسي مسؤولية وزارة الدولة المكلفة بالشؤون الإسلامية، والتي شغل فيها محمد الدويري وزارة المالية والاقتصاد الوطني، على خلفية تداعيات انشقاق 1959 وانهيار حكومة رئيس الوزراء الأسبق عبد الله إبراهيم، وعين أحمد عصمان للمرة الأولى وكيلا لوزارة الصناعة العصرية والمناجم، قبل أن يلتقي الرجلان في زمن آخر، سيصبح فيه عصمان وزيرا أول ومحمد بوستة وزيرا للخارجية. ستتميز بداية العام 1963 بتقديم وزراء حزب الاستقلال، علال الفاسي ومحمد الدويري ومحمد بوستة، استقالتهم، ومن وقتها سيحدث تباعد في المواقف، خصوصا بعد إعلان حالة الاستثناء في عام 1965، لكن بوستة لم يشارك في أي حكومة كان أوفقير ضمن أعضائها في مرحلة سادت فيها هيمنة الهاجس الأمني على ما عداه من خيارات بديلة. في غالبية المحاكمات السياسية التي عرفها المغرب قبل إعادة تطبيع العلاقات بين القصر والمعارضة، كان النقيب محمد بوستة يواجه من يعتبرهم خصوم الديمقراطية الذين كانوا يزرعون الأشواك في الطريق، وارتبط اسمه بالدفاع عن حرية التعبير في المحاكمات التي طالت صحيفتي «العلم» و«الرأي» عند اعتقال مديريهما عبد الكريم غلاب ومحمد برادة، كما كان مكتبه في الرباط يتطوع للدفاع عن معتقلي الحرية النقابية وعن الفلاحين الذين كان الإقطاع يقضم أراضيهم بطرق غير مشروعة. كان بوستة في مرافعاته يمزج بين البعدين القانوني والسياسي، وكان يعرف كيف يحول الثغرات القانونية إلى أخطاء سياسية، دون تشنج في الموقف، فكل ما كان يعنيه أنه كان يبلغ الرسائل بطريقة خاصة تنزع إعجاب خصومه، وحين اعتلى المسؤولية، مجددا، وواجهته صعوبات، كان يلجأ إلى الحوار الهادئ، حتى مع خصومه، فقد كان يؤمن بأن إطفاء الحرائق يسبق البحث عمن أوقدها، ولم يكن يتساهل في هذا الصدد، إلى درجة أنه كان يسمي الأشياء بأقرب الأسماء إليها، كما تدل على ذلك وقائع معاركه الكثر مع إدريس البصري في فترة هيمنة أم الوزارات. من شارع علال بن عبد الله في الرباط، كان نقيب المحامين محمد بوستة، الذي حافظ على مكتبه الذي تخرج منه محامون بارزون، وفي مقدمتهم عباس الفاسي الوزير الأول الحالي، يتجه إلى مكاتب جريدة «العلم» و«لوبنيون» في نهاية الشارع نفسه، ليتفقد أوضاع العاملين. كان يدلف إلى مكاتب المحررين واحدا واحدا قبل أن يعقد اجتماعا حزبيا وإعلاميا لرصد الأوضاع السياسية في البلاد. ولم تفارقه لكنته المراكشية في التغلب على اللحظة بإطلاق كلام ساخر وعميق. لذلك حين وقف يوما في البرلمان وقال بملء فيه: «ما قدوش الفيل زادوه الفيلة» كان يعني جيدا أن سلطات وزير الداخلية إدريس البصري ما فتئت تتعاظم، في وقت تطالب النخب السياسية بالحد منها. الأصل في استحضار ذلك المثل أن بعض السكان الذين كانوا يجاورون غابة موحشة، عقدوا العزم يوما على أن يشتكوا إلى مسؤول من كون الفيل يهجم عليهم ويتلف زرعهم ويحول حياتهم إلى جحيم، وعندما واتتهم الفرصة لتقديم شكوى في الموضوع، لم يستطع أحدهم أن يتحدث صراحة عما يحدث، واكتفى أحدهم بترديد: «الفيل... الفيل». وحين سأله ذلك المسؤول: «ما قصة الفيل؟» رد بتلعثم: «تنقصه الفيلة يا سيدي!». كانت تلك الإشارة الموحية، الموجهة إلى إدريس البصري، تعني أن المؤاخذات كانت تسجل ضده بصفته وزيرا للداخلية، غير أن اختصاصاته توسعت أكثر وأصبح وزير دولة يتدخل في كل شيء. ولعل بوستة كان يعني أن الوزير الراحل كان يتدخل بلا صلاحيات، فبالأحرى حين أصبح ذلك متاحا أمامه بصفته وزير دولة!. محمد بوستة لم يكن من النوع الذي يسهل ثنيه عن مقاصده، إذ كان يعرف دائما ما يريده ويختار الطريق التي يحقق بها ما يريده، وحين اقترح أن يخوض حزب الاستقلال انتخابات 1977 تحت شعار: «من نحن وماذا نريد؟» كان يهدف إلى إلغاء فكرة «الحزب المظلوم»، التي حاول بعض شركائه التبشير بها، فقد كان على يقين أن للاستقلال مكانته الطبيعية، لكنه يتطلب رجالا يعرفون به ويبرون به. إبان انطلاق المسيرة الخضراء، شوهد بوستة إلى جانب الوزير الأول أحمد عصمان في الصف الأمامي، وكان برفقته أيضا محمد الدويري وشخصيات أخرى، لكنه استطاع، في ظرف وجيز، أن يحسم في أي صراع ناشئ. وحين كان البعض يبدي شكوكا في إمكان انتقال زعامة الحزب من فاس إلى مراكش، كان يرد عليه بالجمع بين كل الاتجاهات تحت قبة واحدة، بعيدا عن الإغراق في أي شوفينية قبلية، ونقل عنه القول مرة: إذا كانت فاس عاصمة تاريخية وذات حمولة رمزية في تاريخ المغرب، فإن مراكش هو الاسم الذي كان يطلق على المغرب برمته. بيد أن ذلك لم يحل دون أن تحظى مدينة مراكش بمكانة خاصة لدى الرجل، وبعد أن كانت اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال تتشكل في عمودها الفقري من أبناء فاس (عبد الكريم غلاب، محمد الدويري، عبد الحق التازي، عز الدين العراقي، عبد الواحد الفاسي وغيرهم) اقتحمت الدائرة الضيقة لنفوذ الحزب شخصيات من مراكش أمثال محمد الخليفة ومحمد الوفاء ومحمد أديب ومليكة العاصمي وآخرون. ويسجل له أنه حين كانت تحدث بعض الهزات أو الهفوات أو سوء التفاهم، كان يترجل وحيدا في اتجاه القصر لشرح قضية أو الرد على استفسارات، ولم يرضخ، في ضوء ذلك، لكثير من الضغوط، التي مورست عليه لإقصاء هذه الشخصية أو تلك، ولو أنه سمع كم من مرة تمنيات بهذا الصدد، فقد حافظ على وفائه لحزبه، وربما أنه لم يحزن في حياته كما فعل يوم تصفح جريدة «لوبنيون»، التي كانت قد نشرت صورة عن حادثة سير لأحد أفراد عائلته، وتأثر لذلك مرتين، الأولى لغياب سيدة كان يعطف عليها، والثانية لكون صحيفة الحزب نشرت الموضوع دون أن تعرف بما يتعلق. وإذ يحسب لبوستة أنه أدخل دماء جديدة على قيادة الحزب، فإن اختياراته لم تكن تصب في اتجاه تشكيل فريق من الموالين، لذلك حين قرر الاعتزال واختير آخرون في رئاسة مجلس الحزب، بدا كأنه يكتفي بدور المراقب. وربما كان يعول على دور أكبر لنجله الذي أصبح عضوا في البرلمان، غير أنه لم يعين وزيرا مثل أقارب آخرين، وتلك مسألة يعتقد أنها ترجع إلى معالم فترة كان بوستة قد ابتعد فيها عن الواجهة، وإن لم تبتعد الواجهة عن اهتماماته في القضايا الكبرى. كانت مرحلة توليه الخارجية من أصعب الظروف التي كان على المغرب خلالها أن يدير ملف الصحراء، من منطلق صراع إيديولوجي أملته اعتبارات الحرب الباردة، لكنه صارع على واجهات عدة، من بينها مجالات انفتاح المغرب الكبير على قضايا العالمين العربي والإسلامي. ولدى الحديث عن سلسلة مفاوضات سياسية سرية مع الجزائر، ركزت على قضية الصحراء، يبرز اسم محمد بوستة كأحد المفاوضين الكبار الذي احتفظ في عقله وقلبه بمعطيات على قدر كبير من الأهمية، ولعل آخر جولة من المفاوضات السرية هي تلك التي أجراها مع أحمد الطالب الإبراهيمي، والتي توجت بالقمة التي التأمت في قرية العقيد لطفي على الحدود المشتركة مع الجزائر، برعاية خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز. قبل ذلك، شارك محمد بوستة في لقاءات في باماكو ومناطق أخرى، ويحسب له أنه أدار المفاوضات بحدس سياسي كبير، إلى جانب قادة عسكريين، وكان يهتم دائما بإيجاد منفذ لإعادة تطبيع العلاقات المغربية الجزائرية، لكن في إطار فتح كل الملفات العالقة، ولم يقبل أي نوع من المقايضة، فقد كان يدافع بقوة عن فكرة رفض الحدود التي سطرها الاستعمار، لأنها كانت تخدم مصالحه وليس القضايا المشتركة للدول الخارجة من تحت السيطرة الاستعمارية. وثمة من يذهب إلى أن اختياره من طرف الملك الحسن الثاني لمهمات من هذا النوع، بعد أن كانت تقتصر على المقربين من القصر، بما في ذلك الأمراء، كان بسبب إلمامه الكبير بالخلفيات التاريخية والسياسية والقانونية لهذه الملفات.