من المفروض على المدرسة المغربية، اليوم، أن تعنى أكثر بجملة من القيم النبيلة وغرسها في الطفل والمتعلم حتى يكون في المستقبل رجلا قادرا على تمييز الصحيح من الخطأ والمحظور من المقبول، وتحديد أولويات الحياة ومواجهة وضعياتها المختلفة، إضافة إلى قدرته على معالجة المعلومات والمعارف بكل الوسائل الحديثة، والتحلي بالتربية القويمة التي تقود إلى تربية على مواطنة كونية محددة المعالم. وهذا لن يتم إلا في ظل مدرسة تربي متعلما ذكيا يتصرف بفعالية داخل محيطه، وداخل مجتمعه، عوض التحلي بالتواكل المعرفي والاكتفاء بالبحث عن المعرفة الجاهزة التي لا يساهم هو في إنتاجها بصفته وبفكره وبذكائه. إنه لمن العيب أن تبقى المدرسة المغربية تمارس التعليم التقليدي والتلقيني، وتنكر على المتعلم قدرته على المساهمة في بناء المعرفة وإنتاجها، فذكاء المتعلم حاصل وموجود، لكنه يحتاج إلى موجه ومؤطر عاقل ناضج يوجهه نحو الطريق الصحيح لإنتاج معرفة متطورة ومتجددة. وهذا، بلا ريب، سيخدم الطفل المغربي الحالي الذي يعيش أزمة هوية تربوية وثقافية، فهو أسير لتقاليد وعادات بالية لا تفيد في شيء، وهو سجين إعلام موجه لتخريب العقول والقلوب وغرس القيم الهدامة التي تضرب الاستقرار النفسي والاجتماعي داخل الأسرة، إضافة إلى أنه أصبح عرضة للضياع التعليمي من خلال طرائق بيداغوجية وتربوية تقليدية تؤمن بالتلقين والتعالي والكبرياء والأنفة والاستعباد. ورغم أن الخطاب التربوي الرسمي يحث على تبني الإصلاح التربوي، وذلك باستدعاء طرائق ووسائل تربوية حديثة وتبني بيداغوجيات جديدة كبيداغوجيا الكفايات وبيداغوجيا الإدماج، قصد الخروج من شرنقة التعليم التقليدي الذي لازال عدد لا بأس به من رجال ونساء التعليم يمارسونه داخل فصولهم الدراسية، فإننا لم نشاهد إلى حد الآن تلك الحمية التي تقطع مع الماضي التعليمي، ولم نجد أي بادرة حقيقية لتبني الإصلاح كما جاء في الكتب والخطابات ووسائل الإعلام المختلفة، وبالتالي فإنه من غير المعقول أن نبقى في شد وجذب في ما يخص الإصلاح، ونعيش إرادة التحلي بالقدرة على إنزال الإصلاح التربوي على أرض الواقع . إن كل جديد في مجال التربية لا بد أن يضع في حسبانه أن يسعى إلى غرس القيم النبيلة في الناشئة، فكل ما يحتاجه مجتمعنا اليوم هو أن يتحلى أبناؤه بالقيم البناءة والعظيمة وإنقاذه من براثن الرجعية واللاأخلاق والتراجع الواضح على مستوى التحلي بمكارم الأخلاق التي يدعو إليها ديننا الحنيف وتدعو إليها قيمنا العربية الخالدة. وهذا لن يتأتى إلا بتعليم وتربية يدفعان إلى غرس القيم في ناشئتنا والدفاع عنها وتبنيها في الحياة اليومية. فالمدرسة التي لا تغرس قيم التربية على المواطنة الحقة، والتربية على التكافل بين أفراد المجتمع، والتربية البيئية والحفاظ على المناخ والطبيعة، والتربية على احترام الآخرين،... وغيرها من القيم، هي مدرسة عاجزة مفلسة كل الإفلاس. فدورها ينحصر، أولا وأخيرا، في بلوغ هدف غرس القيم في شخصية المتعلم، لأن المعارفَ التي تقدم إليه جاهزةَ غير مثمرة ولا تظهر فيها ملامح الرفع من الأخلاق والقيم لدى الناشئة هي معارفُ جامدة ولا حاجة إليها البتة. إن المتعلم المتفوق هو الذي يستطيع أن ينتج معارف من خلال المكتسبات والموارد التي لديه، وهو خلاف المتعلم الذي لا يعمل على استثمار مكتسباته وموارده المعرفية لإنتاج معرفة جديدة. وبالتالي، فهذا النوع من المتعلمين هو الأضعف في حلقة التربية والتعليم. وللأسف الشديد فإننا نجد هذا النوع بكثرة في مدارسنا، لأنه لم يستطع أن يتجاوز مرحلة الأخذ والتلقين بدل العطاء والإنتاج، سواء من خلال قدرته الذاتية على ذلك أو من خلال مدرس لم يعِ أبدا ولم يستوعب بعدُ أسس التربية الحديثة. إن معاناة المتعلم المغربي تتزايد وتتفاقم يوما بعد يوم في ظل تعليم مازال لم يبرح مرحلة التقليدانية والرؤية الكلاسيكية للتعلم. وهذه المعاناة تنقل عدواها إلى المجتمع باستمرار لأنها لم تجد من يحدّ من انتشارها وتفاقمها، ولم تصطدم بالتجديد الحقيقي وبالإصلاح المبني على أسس نظرية وتطبيقية مستمرة، فأغلب الخطوات الإصلاحية تصطدم بلوبيات توقف مسيرتها السريعة أو تعاني من ضعف الإرادة السياسية والمادية لبعض الفئات في قطاع التربية والتعليم . إن فعالية التعلم بالنسبة إلى متعلم اليوم تكمن في قدرته على إنتاج أفكار جديدة والمساهمة في سير العملية التعلمية داخل الفصل الدراسي، واستفادته من توجيه المدرس ونصائحه التي تفيده في إنتاج المعرفة الجديدة، عوض تلقي تعليم عمودي، تقليدي، تلقيني، لا يرفع من جودة التعلمات ولا ينتج معارف مهمة وجديدة تساير الواقع ووضعيات الحياة اليومية . المتعلم الذي لا يستطيع أن يحس بتغيير واضح في نهاية كل سنة دراسية، وكذلك المدرس، هو متعلم لم يحصل على أي قيمة مضافة تزيده اكتسابا تعلميا ومعرفيا. فالخلل في هذه القضية يكون حاصلا في أسلوب المدرس وطريقته التلقينية التي لم تعُد مجدية اليوم. فالمدرسة المتميزة هي المدرسة التي تتصف بكونها تمنح تلك القيمة المضافة إلى المتعلم وتكسبه معارف جديدة وقيما جديدة تساعده على النضج المعرفي والحياتي. ذلك أن العدل التعليمي يتطلب الوقوف على الفوارق بين المتعلمين واكتسابها في العملية التعلمية، ومن خلال كل هذا نصل إلى تحقيق العدل التربوي الذي يهدف إلى جعل كل المتعلمين -دون تفضيل بينهم- يتقدمون في الدراسة واكتساب المعرفة. إن جودة التعليم والتربية التي يفترض تحقيقها تنبني على رؤية إصلاحية تضع في حسبانها متطلبات المتعلم وحاجياته، من خلال إشراكه في إنتاج المعرفة وإكسابه الوسائل الكفيلة بالتعلم الذاتي من أجل المشاركة الفعالة في مسلسل البناء التربوي وتنمية الشخصية المغربية المستقبلية. وهذا سيكون قاطرة لتحقيق التنمية البشرية المستدامة والتي تهدف إلى بناء المجتمع على كل الأصعدة ...