بعض الوزراء الذين تعاقبوا على المناصب الحكومية كان نفوذهم أكبر من المواقع التي باشروا منها تحمل المسؤوليات، ولعل القرب إلى رئاسة الوزراء أو مؤسسة الوزير كان سبيلهم إلى الاضطلاع بأدوار متنفذة، كما أن آخرين استفادوا من قربهم إلى المحيط المغلق حول دائرة القصر. والحال أن البعض الآخر كانت له الأهلية والثقة والجدارة، لكن السياسة حظوظ أيضا. في مقابل هذه الصورة، التي جعلت أسماء بعض الوزراء تتردد عبر طبعات منقحة لعشرات التشكيلات الحكومية، انسحبت مشاهد مغايرة على وجوه أخرى مرت من دواليب الحكومة، دون أن تترك أثرا، بل إن بعضها غادر الجهاز التنفيذي كما دخله، لولا أن أسماءهم سجلت في قوائم الوزراء. ويبقى أن البادرة التي أقدم عليها وزير أول سابق، من خلال تعليق صور الوزراء الأولين، الذين نفذوا قبله إلى مقر الرئاسة الحكومية، يمكن أن تشكل نموذجا يحتذى في باقي الوزارات والقطاعات للتعريف بالرجال الذين سبقوهم في تحمل المسؤولية. عبد السلام زنيند كان واحدا من الوزراء الذين لم يكونوا يرغبون في الظهور، فقد كان شعاره هو الابتعاد عن دائرة الأضواء الكاشفة، لكنه من خلال المسؤوليات التي تدرج فيها، صنع لنفسه هالة لا تكاد تليق بغيره، وربما ساعده في الاضطلاع بمهمته أنه كان رجل الملفات التي ينكب عليها ويستخلص من خلالها ما يجب اتخاذه من إجراءات، وإن لم يكن في أي فترة يحب أن ينسب إلى نفسه الفضل في أي منها، فقد كان وحيدا، لكنه من أنصار العمل الجماعي. ابن وزان، الذي كان قليل الكلام، إلا حين يطلب إليه الإدلاء برأيه، انتسب إلى السلك الدبلوماسي في وزارة الخارجية، وغادرها للمرة الأخيرة بعد الإضراب الشهير، ووجد نفسه يقترب إلى عالم الإعلام في ظرفية دقيقة، ثم يدلف إلى ردهات الشؤون العامة، التي يحيل اسمها إلى ما يرتبط بالتنسيق الحكومي بين القطاعات، في إطار تغليب المقاربة السياسية في التعاطي مع المشاكل المطروحة. فقد ظلت إدارة الشؤون العامة التي يطلق عليها في كل مرحلة اسم معين، بمثابة مختبر سياسي للعمل الحكومي، الذي تضطلع ضمنه الوزارة الأولى بدور أكبر، وكلما كانت إدارة الشؤون العامة قوية النفوذ والمسالك، كلما كانت مهمة الوزير الأول تنطبع بالحسم، وحين يعتريها الضعف، وتصبح مجرد آليات للتسجيل تضعف الوزارة الأولى بالضرورة، خصوصا حين يكون على الطرف الآخر، وزير داخلية متنفذ من مستوى إدريس البصري، الذي حارب إدارات الشؤون العامة من غير تلك التي وضعت تحت اختصاصاته، ولعل أول من دفع ثمن ذلك الصراع لم يكن سوى كمال الأخضر، الذي توارى عن الأنظار بلا ضجة، ثم جرب حظه في أن يصبح رساما على القماش بعد أن كان يرسم الخرائط السياسية على الواقع. وضعية عبد السلام زنيند كانت مختلفة، لأنه كان يعمل إلى جانب الوزير الأول أحمد عصمان الذي حظي في بداياته بدعم قوي من طرف القصر، ولم يدخل في صراعات مباشرة مع أحزاب المعارضة، عدا أن زنيند كان يمسك بأدق تفاصيل ملف الصحراء في المراحل الأولى لاندلاع النزاع، واستطاع أن يقيم الجسور مع شخصيات صحراوية عديدة. وبالنظر إلى أهمية الملف الذي استغرق السنوات الصعبة ما بين 1974 و1979، فإن كاتب الدولة في الشؤون العامة عبد السلام زنيند كان يستمد قوته من تأثير تلك التطورات التي لم يكن بعيدا عنها، بل كان في صلبها واحد من العاملين في صمت. يمكن ملاحظة أن الصراع حول إدارة الشؤون العامة لم يرتد الأبعاد التي اتخذها لاحقا، لأن الوزير إدريس البصري كان في بداية طريقه للاستحواذ على مراكز النفوذ، ولم يكن في وسعه أن يقفز على وزراء الداخلية الذين عمل تحت إمرتهم، إلا بالقدر الذي كانت تسمح به ظروف الصراع ومجالاته المحدودة وقتذاك، قبل أن يستأثر بالمقعد الأمامي الذي أتاح له تصفية منافسيه، أو على الأقل أولائك الذين تصور أنهم يمكن أن يلحقوا بعض الضرر برؤيته إلى الأشياء، لذلك لم يحدث أن دخل الرجلان زنيند والبصري في مواجهات مباشرة إلا بالقدر الذي كان كل طرف يتصور أن الأمر يندرج في عمق اختصاصاته. حين كان البصري يتلمس طريقه تحت شمس التطورات التي حدثت إبان تنظيم المسيرة الخضراء، كان زنيند يمسك بالملف من موقع آخر، لولا أن المستجدات لن تميل لفائدته في اللاحق من الأحداث، بسبب أن البصري كان رجل ميدان، بينما زنيند بقي رجل الظل. حين ووجه، يوما، في بداية عام 1980 بالسؤال حول التيارات المتصارعة داخل تجمع الأحرار، قبل انشقاق الأشخاص الذين أسسوا الحزب الوطني الديمقراطي، أمسك عن الكلام ورد بما يفيد بأن الشرعية الحزبية هي الأساس، ولعله أدرك، وقتذاك، أن الاتجاه لا يسير كما كان يحلم به أحمد عصمان، فقد كان البصري قد أصبح رجلا آخر، وكان الجنرال أحمد الدليمي يرمي ببصره طولا وعرضا، بحثا عن دور سياسي يلائم طموحاته غير المعلنة. لا أحد يعرف إن كان الرجل قد ألقى بسلاحه واستسلم أمام العاصفة، فهو لم يكن من قبيلة المستسلمين، لكنه بدا أقرب إلى الإذعان إلى الأمر الواقع، فقد كان ينظر بعيدا في اتجاه الأفق، ورأى أن نفوذا آخر بصدد الصعود، في سياق انعدام توازن القوى. وفي الخلاصة أن خدمة الإدارة لا تفرق بين المواقع، ولن يكون دوره إلى جانب عصمان كرئيس لتجمع الأحرار هو نفسه عندما كان وزيرا أول، قبل تعيين خلي هنا ولد الرشيد كاتب دولة مكلفا بالشؤون الصحراوية، كان في الوزارة الأولى رجل صامت يدير الملف، فقد كلف عبد السلام زنيند بهذه المهمة في ديسمبر 1974، مع الاحتفاظ بمهمة كاتب دولة لدى الوزير الأول مكلفا بالشؤون العامة. كانت المرحلة دقيقة تخص، من جهة، الانفتاح على السكان الصحراويين الذين كانوا يرزحون تحت الاحتلال الإسباني، مما تطلب وضع خطة ميدانية في هذا النطاق، وتتعلق، من جهة ثانية، بالإعداد للمراحل اللاحقة التي سبقت قرار الإعلان عن تنظيم المسيرة الخضراء. لم يأت ذكر اسم عبد السلام زنيند ضمن الأشخاص الأقربين إلى مصدر القرار فيما يتعلق بإعداد المسيرة الخضراء، حيث حرص الملك الحسن الثاني على إشراك جنرالات الجيش في وضع اللمسات الأولى لخطة المسيرة الخضراء، ودعاهم إلى القسم من أجل أن تبقى طي الكتمان، غير أن حدس الرجل دفعه إلى أن يساير تلك التطورات، في ضوء العلاقات التي كان قد نسجها مع بعض الشخصيات الصحراوية. وتحول مكتبه في الوزارة الأولى وبيته كذلك إلى ملاذ للصحراويين، الذين بدؤوا في كتابة رسائلهم المؤيدة للمغرب، في ضوء القرار الشجاع الذي كان قد اتخذه رئيس الجماعة الصحراوية الشيخ خاطري ولد سعيد الجماني، الذي قدم إلى المغرب لتقديم بيعة وولاء السكان إلى الملك الحسن الثاني. بين الدور الذي اضطلع به الديوان الملكي في شخص المستشار الراحل أحمد بن سودة، وذاك الذي أبانت عنه القوات المسلحة الملكية في بسط السيطرة على كل الأقاليم، كانت هناك تحركات موازية سجل للوزير زنيند أنه لعب فيها دورا محوريا بارزا. على الصعيد السياسي، سيكون لعبد السلام زنيند دور لافت في إطار الإعداد لولادة «التجمع الوطني للأحرار»، ومع أن قرار تأسيس الحزب جاء بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات التي طغت فيها أحزاب المعارضة، وإن كان طعن حزب الاستقلال تحديدا لم يحل دون مشاركته في الحكومة التي ترتبت على ما بعد تلك الانتخابات، فإن جهود زنيند انصبت، من موقعه داخل الوزارة الأولى وخارجها، على جمع شتات النواب المستقلين أو الأحرار، وفق التسمية التي أطلقت عليهم. لم يكن يفعل ذلك بطريقة مباشرة، تلافيا لأي حساسيات، لكنه كان يحرك الخيوط من الوراء، وكان بإمكانه دائما أن يقنع الوزير الأول أحمد عصمان بوجاهة رأيه، بل إنه كان يحرص على عدم الدخول في مواجهات مفتوحة مع باقي أحزاب المعارضة، يقينا منه أن القبول بوجود تجمع الأحرار يتطلب مسارا تدرجيا، قد يكون قد أثمر في نهاية المطاف ذلك التعايش الذي بدأت معالمه، عندما لم يجد الاتحاد الاشتراكي، على عهد زعيمه السابق عبد الرحمان اليوسفي، بداً من مد اليد لتجمع الأحرار لتشكيل أغلبية نيابية لما عرف بحكومة التناوب الأولى. والحال أن أحمد عصمان بدوره ظل ينزع إلى أن يكون رجل وفاق، وإن لم يفلح في ذلك على صعيد احتواء التناقضات التي انفجرت داخل حزبه مرات عديدة. كانت بغداد في فترة سابقة محطة اختبار للكفاءات الدبلوماسية والسياسية، وكان اختيار السفراء المغاربة، الذين يتولون إدارة الهيئة الدبلوماسية في بلاد الرافدين، يخضع لكثير من الاعتبارات، ليس أقلها أن يكونوا أقرب إلى مصادر القرار. وحين ذهب عبد السلام زنيند إلى العراق، حمل معه تصورات حول إمكانية الارتقاء بعلاقات البلدين، التي كانت متأثرة بنظرة حزب البعث الاشتراكي، وكذلك كان الحال مع عبد الواحد بلقزيز، الذي اهتم بأن يبلغ المسؤولين في بغداد أن المغرب يشارك العراقيين نظرتهم لأمور الوحدة. بيد أن سفيرا آخر جمع حقائبه ورحل في اليوم الأول الذي اندلعت فيه الحرب العراقية الإيرانية، إلا أن أهل بغداد احتفظوا للسفير عبد السلام زنيند أنه فتح جسور التعاون بين الرباط وبغداد في مجالات عدة. وكان من أبرز نتائج ذلك التفاهم أن العراقيين ساندوا الوحدة الترابية للمغرب بقوة، ولو أنهم في الأيام الأولى للغزو العراقي للكويت هددوا تحت تأثير الانفعال بدعم البوليساريو، وكان ذلك بعد فوات الأوان، حيث لم يعد النظام العراقي يجد من ينصت له في أي من طروحاته، فيما دخل الملك الراحل الحسن الثاني على خط الأزمة عراقيا وإقليميا ودوليا لحض العراقيين على الانسحاب، لكن دون جدوى، فقد سبقتهم هواجس انتحارية غلفت بقدر أكبر من سوء التقدير لمصير مأساوي لازال الشعب العراقي يدفع ثمنه.سيعود عبد السلام زنيند وزيرا في حكومة التناوب لعام 1998 منتدبا لدى وزير الخارجية، مكلفا بالشؤون المغاربية والعالم العربي والإسلامي، فقد حط الرحال في الوزارة التي كان ينتسب إليها في بداية مشواره السياسي، وبعد أقل من عامين، عين وزيرا للنقل والملاحة التجارية، كما سبق له أن عين وزيرا للسياحة، إلا أن الماء الذي كان يجيد السباحة فيه لم يكن سوى عالم الشؤون العامة، ولذلك فإن مروره من وزارات عديدة لم يترك الأثر الذي انطبع به مساره في كتابة الدولة في الشؤون العامة، وفي التعاطي مع ملف الصحراء. على الرغم من أنه كان رجل الظل الذي يحرك الأشياء في حزب التجمع الوطني للأحرار في السنوات الأولى لتأسيسه، فإنه كان بارعا في الاختفاء وعدم الظهور في الواجهة، ونادرا ما أخذت له صور وهو يخطب في مهرجانات شعبية، حتى في الحملات الانتخابية، بيد أنه، على عكس الآخرين، ظل وفيا لقيادة أحمد عصمان، ولم يدخل في أي صراع أحيك ضده، وإن كان قد نبه الوزير الأول الأسبق مرات عدة إلى أن الثقة لا توضع في أي كان، وكان يغلف طلبه بكلام لا يخلو من الثناء على الجميع، فقد كانت تلك طريقته في الحصول على ضربات الجزاء، تاركا للآخرين أن يسجلوها أو يضيعوها في الهواء.