قرار المدعي العام في محكمة الجنايات الدولية بإلقاء القبض على الرئيس السوداني عمر البشير بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في دارفور، يؤكد شكوك الكثيرين بأن الإدارة الأمريكية الحالية، ومعها العديد من الدول الغربية تتبنى استراتيجية تهدف إلى تفكيك معظم الدول العربية والإسلامية، وتحويلها إلى دول فاشلة، وإلحاق أكبر قدر من الإذلال بها وبزعمائها. نقر ونعترف بأن الغالبية الساحقة من الزعماء العرب فاسدون ودكتاتوريون وقمعيون وصلوا إلى السلطة بطرق غير مشروعة، إما بالانقلابات العسكرية، أو عبر وراثة غير دستورية، ولكننا نرفض طرق التغيير الأمريكية، لأنها لا تنطلق من مصالح الشعوب العربية ورغبتها الحقيقية في إقامة أنظمة ديمقراطية وطنية عبر صناديق اقتراع في انتخابات نزيهة شفافة، وإنما من مصالح الولاياتالمتحدة في الهيمنة والنهب الممنهج للثروات النفطية، وتكريس إسرائيل زعيمة للمنطقة، وما يحدث حاليا في العراق وأفغانستان الدليل الأبرز في هذا الصدد. إذا كان لا بد من محاكمة الزعماء العرب ومعظمهم ارتكبوا جرائم في حق شعوبهم، فيجب أن تكون هذه المحاكمات عربية شعبية من قبل أنظمة ديمقراطية أو محاكم دولية عادلة دون أجندات خفية. الرئيس السوداني عمر البشير لا يواجه هذا الاستهداف الأمريكي المتستر خلف محكمة الجنايات الدولية بسبب الاتهامات بارتكاب قواته مجازر في دارفور، وإنما لأنه شق عصا الطاعة على إدارة أمريكية تريد طمس هوية بلاده العربية والإسلامية، وضرب وحدتها الوطنية، وتفتيتها إلى جمهوريات متصارعة مثلما هو الحال في منطقة البلقان والعراق، فلو أنه أيد الاحتلال الأمريكي للعراق، ووقف في معسكر دول ال«مع» الذي بارك وجود نصف مليون جندي في الجزيرة العربية تحت ذريعة تحرير «الكويت»٬ لأصبح الزعيم الإفريقي الأقرب إلى قلب الإدارة الحالية. نحن لا نبرئ حكومة الرئيس البشير تماما من ارتكاب تجاوزات وانتهاكات لحقوق الإنسان في دارفور، فهذه الحكومة تتحمل المسؤولية الأكبر في كل ما حدث ويحدث، لأن هذا الإقليم سوداني، وأهله سودانيون، وحماية الحكومة لهم واجب أخلاقي وقانوني، بغض النظر عن لونهم وعرقهم ودينهم. ومن المؤسف أن حكومة الخرطوم المركزية انحازت إلى طرف دون آخر، أو قبيلة في مواجهة أخرى، دون أن تتبصر بالعواقب المترتبة على تصرفات ومواقف كهذه داخليا ودوليا. الأنظمة العربية لا تتعظ، ولا تتعلم من أخطاء غيرها، وتحتكر الحكمة والرأي السديد، وتجرم كل من يخالف سياساتها، وتصدر اتهامات ظالمة في حق جميع المعارضات بالعمالة، والارتباط بالاستعمار. وعندما تقع في حفرة حفرتها بنفسها تطالب الجميع بالالتفاف حولها، والتضامن معها، وإلقاء حبل الإنقاذ لانتشالها. النظام السوداني ليس خاليا من العيوب والنواقص، ولكنه أقدم على خطوات في السنوات الأخيرة من حكمه تؤكد حسن نواياه تجاه معارضيه من مختلف الاتجاهات السياسية والعرقية، فقد تصالح مع المعارضة الشمالية، وشاهدنا السيد الصادق المهدي زعيم حزب الأمة والسيد الميرغني زعيم الحزب الاتحادي، وكل الرموز الأخرى تتمشى في شوارع الخرطوم بحرية وتصدر صحفا، وتعقد الندوات، ولم يبق واحد منهم يصدر بيانات في لندن أو أسمرة. وتابعنا خطوات النظام السوداني الحثيثة لحل مشكلة الجنوب وتوقيع «اتفاق أبوجا» وتطبيق بنوده جميعا رغم ما فيها من جور وتقسيم غير عادل للثروة النفطية. والأهم من ذلك أن النظام التزم بانتخابات ديمقراطية نزيهة في العام المقبل واستفتاء يسمح للجنوبيين بتقرير مصيرهم عبر الخيار بين البقاء في نظام اتحادي أو الانفصال. هذه المرونة لم ترق للولايات المتحدة وبعض الدول الغربية، لأنها تقطع الطريق على مخططاتها التفتيتية للسودان وباقي الدول العربية والإسلامية، فضخمت أزمة دارفور بطريقة مبالغ فيها، وذهبت إلى المحكمة الجنائية الدولية لاستهداف رأس النظام، وإذكاء نار الفتنة العرقية، تماما مثلما استخدمت الفتنة الطائفية في العراق ولبنان. جامعة الدول العربية أعلنت عن اجتماع طارئ لوزراء الخارجية العرب يوم السبت المقبل لبحث قرار اعتقال الرئيس السوداني، وهو أمر متوقع للإيحاء بأن هناك جامعة عربية مازالت في حال حراك، ولكن هؤلاء الوزراء الذين لم يستطيعوا فتح «معبر رفح»، أو إرسال طائرة مدنية واحدة إلى مطار طرابلس الليبي في زمن الحصار، هل سيحمون الرئيس السوداني من المحكمة الجنائية ومدعيها العام؟ نصيحتي إلى الرئيس السوداني ألا يعوّل كثيرا على الزعماء العرب، وألا ينتظر منهم غير ما انتظره زميله الراحل صدام حسين، والحالي معمر القذافي. فهؤلاء متواطئون في معظمهم، ومحايدون في أفضل الحالات. يأتمرون بأمر أمريكا وينفذون تعليماتها حرفيا. أليسوا هم الذين أيدوا العدوان على العراق، وفتحوا أراضيهم وقواعدهم العسكرية لانطلاق القوات الأمريكية صوب بغداد؟ وهل اعترض أي منهم على المحاكمة الظالمة المزورة، وإعدام الرئيس العراقي يوم عيد الأضحى المبارك؟ نقول للرئيس عمر البشير أن يذهب إلى الاتحاد الإفريقي، لأن زعماءه رجال قادرون على أن يقولوا «لا» لأمريكا، ومستعدون لنصرة أشقائهم، فهم الذين كسروا الحصار عن ليبيا ونزلوا بطائراتهم في مطارها في تحد واضح لأمريكا وقراراتها٬ بينما كان الزعماء العرب يخفون رؤوسهم في الرمال مثل النعام، وإذا قرروا الذهاب إلى ليبيا فبإذن من أمريكا وتصريح من مجلس أمنها. مسؤول ليبي اعتذر عن عدم ذكر اسمه، قال لي إن الرئيس حسني مبارك كان يعرج على ليبيا في كل مرة يزور فيها واشنطن ويلتقي رئيسها. وكان يحرص عندما يلتقي بالزعيم الليبي معمر القذافي على أن يقول له إنه أبلغ الرئيس الأمريكي بضرورة رفع الحصار عن ليبيا، وإن الزعيم القذافي «تغير» ومستعد لنبذ الإرهاب، والتخلي عن كل الجماعات الإرهابية، والاندماج في المجتمع الدولي. وهنا، وبعد الاستماع إلى هذه المحاضرة الطويلة، يكتم الزعيم الليبي غيظه ويقول له، بعد أن نفد صبره تماما: طيب.. طيب.. ولكن ماذا كان رد الرئيس الأمريكي «شنو قال لك؟»، وهنا يعود الرئيس مبارك إلى تكرار الأسطوانة نفسها ويبدأ بالقول: أنا قلت للرئيس بوش أو كلينتون من قبله، كذا وكذا وكذا. النظام السوداني يملك أوراقا كثيرة يستطيع لو استخدمها أن يقلب معادلات كثيرة في المنطقة، ويلحق أذى كبيرا بالولاياتالمتحدة وحلفائها، فالرئيس البشير ليس بالرجل السهل، ونظامه الذي واجه أزمات تعجز الجبال عن تحملها لن يستسلم بسهولة. ولا نبالغ إذا قلنا إن النظام المصري الذي ساهم بدور كبير في إلحاق أشد أنواع الأذى بالسودان وأنهكه تماما بتحالفه مع المعارضات السودانية، والانفصالية منها على وجه الخصوص٬ انتقاما من اتهام السودان بدعم محاولة اغتيال الرئيس مبارك في أديس أبابا، سيكون هذا النظام هو المتضرر الأكبر، لأن تحول السودان إلى دولة فاشلة في حال انهيار مؤسساته الدستورية ونظامه الحاكم، سيعني حرمان مصر من أهم حليف عربي في حوض وادي النيل، وبالتالي من حصتها الأضخم من مياه وادي النيل (54 مليار متر مكعب من 84 مليارا). تفكيك السودان ستكون له مخاطر أكبر من تفتيت العراق، ويكفي أن تنظيم «القاعدة» سيكون أول من سيحط الرحال على أرضه، ويفتح فرعا له، أو بالأحرى إعادة إحياء فرعه القديم الذي أسس لانطلاقته الحالية في الخرطوم. الإدارة الأمريكية لم تتعلم من تجربتها الإفريقية في الصومال عندما أطاحت بنظام محمد سياد بري بحجة اشتراكيته، وأوجدت نظاما فاشلا مازال يشكل صداعا إقليميا لكل دول شرق إفريقيا، وهو صداع مرشح للتفاقم مع نمو تنظيم «القاعدة»، على أرضه، وتورط إثيوبيا، نيابة عن أمريكا، في حروبه الأهلية. المحكمة الجنائية الدولية تثبت بقرارها هذا في حق الزعيم السوداني أنها محكمة مسيسة جرى إعدادها خصيصا لاستهداف الزعماء الذين تستهدفهم الإدارة الأمريكية، ولو كانت غير ذلك لكان الرئيس جورج بوش الابن، وحليفه توني بلير أول من يقفون في قفص اتهامها، فهذان هما اللذان ارتكبا جرائم في حق الإنسانية، ومارسا التطهير العرقي في أبشع أشكاله عندما أقدما على غزو غير قانوني وغير أخلاقي، قائم على أكاذيب، للعراق، وتسببا في تمزيقه وقتل مليون ونصف مليون من أبنائه وتشريد خمسة ملايين آخرين، أي ضعف مشردي دارفور مرتين. لا ننسى أيضا جرائم الإسرائيليين في حق الإنسانية، ويكفي ما قاله القس ديزموند توتو في هذا الشأن عندما زار قطاع غزة مؤخرا، فلماذا لا نري شارون وأولمرت في قفص الاتهام؟ الرئيس البشير سيتجاوز هذه الأزمة، ليس لأنه يملك خبرة ضخمة في الصمود في وجه الأزمات، وإنما لأنه يرتكز على شارعين، سوداني وعربي، يدعمانه في معظمهما، وقارة إفريقية بكاملها، وهي القارة التي أطاحت بالنظام العنصري في جنوب إفريقيا وكسرت الحصار عن ليبيا، ووقفت إلى جانب روبرت موغابي رئيس زيمبابوي في معركته مع أمريكا وبريطانيا. تجاوز هذه الأزمة مرهون بشرط واحد، وهو أن يتخلى الرئيس البشير عن الكثير من عناده تجاه المعارضة السودانية الداخلية، والتراجع عن ممارسات مؤسفة في حق بعض القوى السياسية بإبعادها كليا عن أي مشاركة في الحكم أو حتى المشورة. فهذا هو وقت تعزيز الوحدة الوطنية، ليس من أجل حماية النظام وإنما حماية السودان وهويته ووحدته الترابية.