نواصل التعرف على فكر علي شريعتي في تحولات التشيع. لقد كانت علاقة الصفويين بالتشيع معقدة جدا ومركبة، ولم تكن مجرد استغلال عابر، بل كانت إعادة تشكيل جذرية. يقول المؤلف: إن التشيع الصفوي "كان مجبرا على حفظ التشيع، بل الترويج له، ليشكل منه ركيزة لتسويق نظام حكمه بين الجماهير، ويتبع ذلك عزل الشعب الإيراني عن العالم الإسلامي.. وكان عليه أن يبذل جهدا استثنائيا وحاذقا في شل حركة التشيع، ومسخ حقيقتها، وإحباط تأثيرها في القلوب والعقول، على نحو يبقى عليّ ولكن بدون أن يستلهم الشيعي منه الحرية والعدالة، وتبقى كربلاء ولكن شريطة أن ينام الشيعي ولا ينهض ولا يتدخل بشأن الولاة. ولا مانع من أن يُثار بحث موضوع الإمامة، ولكن فقط في الاتجاه الذي يزرع الفتنة ويخلق العداوة والبغضاء والعصبية والنعرات القومية بين الفرس والترك والعرب، ولا يتعرض للسلطان الصفوي ولا يؤشر على مواقع الخلل والانحراف والمجازر البشعة التي قام بها الشاه إسماعيل".. للوهلة الأولى، ربما يقول قائل: إنه كان على الصفوية أن تعتم على حادثة كربلاء، وتسلط الضوء أكثر على موقف الإمام الحسن من الصلح مع معاوية.. على اعتبار أن الموقف الأول ثوري لا يخدم الدولة، بخلاف الثاني الذي هو سلمي تصالحي. يجيب شريعتي: "الصفوية لم تقنع بهذا المستوى من التوظيف الديني، وسعت إلى تحقيق هدف إعجازي عظيم، تمكنت خلاله من الإبقاء على تشيع الدم والشهادة والثورة والرفض، وجعلت من الحسين محورا لكل نشاطاتها الدعائية ومن علي شعارا لكل النهضة، وحافظت على الحالة الثورية وعلى نزعة التمرد والعصيان لدى الإنسان الشيعي، واستمرت في شحذ الهمم وتأجيج المشاعر على مدى شهرين كل عام (محرم وصفر)، بل على مدى عام كامل، وأصبح كل يوم عاشوراء، وكل أرض كربلاء.. لكنها، في الوقت ذاته، عملت بذكاء على توجيه كل المشاعر الانتقامية والعواطف الملتهبة للتيار الشيعي الرافض للاستبداد والتمييز نحو الجبهة التركية وضد أبناء عموم الأمة الإسلامية". وهذا ما يسميه شريعتي بعبقرية الصفوية، أو إنجازها المعجز، يعني في التوفيق بين المتناقضات وتوظيفها لمآربها السياسية. ومن أبرز الأمثلة التي ضربها صاحبنا لهذا التحول: مسألة الإمامة، ومكانة العالم الشيعي ورسالته. الإمامة وفي هذا، غيّر الفكر الصفوي كثيرا من الصورة الحقة للأئمة وآل البيت، يقول: "من فاطمة صنعت الكيمياء الصفوية امرأة لا يشغلها شاغل عن الندب والبكاء على قطعة أرض صادرتها الحكومة بغير حق، وهي مشغولة، إذن، باللعن والدعاء بالويل والثبور لا غير. أما الحسن، فأستحي أن أقول".. ورفعت الصفوية الأئمة إلى مصاف الآلهة، لكنها ألغت دورهم في التاريخ، بل صوّرته بصورة هزيلة وضعيفة.. وعوّضت معرفة أحوال الأئمة وما كانوا عليه بحبهم وبالغوا في هذا الحب. وقد عقد شريعتي مبحثا مستقلا لما فعلته الصفوية من الغلو الشديد في الأئمة، فأفكار الولاية التكوينية للأئمة، وأفضليتهم على جميع الأنبياء.. ونحوها، هي من بنات العصر الصفوي بالأساس. وهذا النص الذي أورده شريعتي عن كتاب من العهد الصفوي كفيل بإعطاء فكرة عن المسألة: "في كتاب بصائر الأنوار.. سأل أبو ذر الغفاري سلمان الفارسي: يا أبا عبد الله ما معرفة الإمام أمير المؤمنين (ع) بالنورانية؟ قال: يا جندب فامض بنا حتى نسأله عن ذلك.. قال (ع): إنه لا يستكمل أحد الإيمان حتى يعرفني كنه معرفتي بالنورانية. فإذا عرفني بهذه المعرفة فقد امتحن الله قلبه للإيمان وشرح صدره للإسلام وصار عارفا مستبصرا. ومن قصّر عن معرفة ذلك فهو شاك ومرتاب.. معرفتي بالنورانية معرفة الله عز وجل، ومعرفة الله عز وجل معرفتي بالنورانية وهو الدين الخالص.. إلى أن قال: المؤمن الممتحن هو الذي لا يرِد من أمرنا إليه بشيء إلا شرح صدره لقبوله ولم يشك ولم يرتَبْ. إعلم يا أبا ذر أنا عبد الله عزّ وجل وخليفته على عباده، لا تجعلونا أربابا، وقولوا في فضلنا ما شئتم، فإنكم لا تبلغون كنه ما فينا ولا نهايته... وقال: كنت أنا ومحمد نورا واحدا من نور الله عز وجل، فأمر الله تبارك وتعالى ذلك النور أن يشق، فقال للنصف: كن محمدا، وقال للنصف: كن عليا. وصار محمد الناطق، وصرت أنا الصامت. ثم ضرب (ع) بيد على أخرى، وقال: صار محمد صاحب الجمع وصرت أنا صاحب النشر، وصار محمد صاحب الجنة وصرت أنا صاحب النار، أقول لها: خذي هذا وذري هذا... وأنا صاحب اللوح المحفوظ ألهمني الله عز وجل علم ما فيه... وصار محمد خاتم النبيين وصرت أنا خاتم الوصيّين... إلى أن قال: أنا الذي حملت نوحا في السفينة بأمر ربي، وأنا الذي أخرجت يونس من بطن الحوت بإذن ربي، وأنا الذي جاوزت بموسى بن عمران البحر بأمر ربي، وأنا الذي أخرجت إبراهيم من النار بإذن ربي... قال (ع): أنا أحيي وأميت بإذن ربي، وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم بإذن ربي، وأنا عالم بضمائر قلوبكم، والأئمة من أولادي (ع) يعلمون ويفعلون هذا إذا أحبّوا وأرادوا، لأنا كلنا واحد، أولنا محمد وآخرنا محمد وأوسطنا محمد وكلنا محمد"... علماء الصفوية كما ميّز شريعتي بين التشيع الصفوي والعلوي، فإنه أيضا فرّق بين العلماء العلويين والعلماء الصفويين. يقول: "كما تحول التشيع من حركة إلى نظام، وتحول الشعور الشيعي من معرفة فكرية واعية إلى عواطف جياشة تجاه شخصيات في التاريخ، حصل بموازاة ذلك تحول نوعي آخر، حيث تبدل العالم الشيعي إلى رجل دين". ورغم أن أنظمة الحكم بصفة عامة تحتاج إلى غطاء ديني أو شرعية دينية، فإن الدولة الصفوية كانت بحاجة إلى ما هو أكثر من ذلك، إلى تحويل المذهب إلى سلاح، يقول في هذه المقارنة بين الحاجتين: "مشكلة الصفوية كانت تكمن في حاجتها بالذات إلى عناصر التأليب وتأجيج المشاعر والنعرات الطائفية والمذهبية، على خلاف بقية الأنظمة وهياكل الحكم. لم تكن الصفوية تقتنع وتكتفي بدور الدين والمذهب في تبرير الوضع القائم وإضفاء القدسية على ما هو كائن وموجود، بل كانت تطمح إلى ما هو أبعد من ذلك في استخدام المذهب كقوة تحريكية وآلة للانتقام من المذهب السني الحاكم في الدولة العثمانية. ومن هنا، وجدت الصفوية نفسها مضطرة إلى الحفاظ على التشيع بشكله العلوي الأصيل، وتسليط الضوء على أكثر منعطفاته وقضاياه خطورة وحساسية." ولم يكن من الممكن للصفوية أن تنجح في هذا المسعى دون تعاون أكثر علماء الشيعة معهم. يقول شريعتي: "منح المد الصفوي الشرعية والرسمية للتشيع الجديد، وجعله مذهبا رسميا للبلاد، وفرضه على المجتمع. وعمل على تخريج أربعة آلاف تلميذ لهذه المدرسة، أصبحوا لاحقا جنودا لشريعة شاه إسماعيل الصفوي.. وحرص هذا النظام على إرسال تلاميذ مدرسته إلى المجتمع، وبثِّهم بين صفوف الناس بدلا من علماء أهل البيت وتلاميذ مدرسة الإمام الصادق".. ويقول أيضا: "صحيح أن السلطان الصفوي أصبح شأنه شأن الخليفة العباسي في بغداد في جميع المجالات، ولكن هذا لا يمنع الوجدان الاجتماعي الشيعي من تحمل نظامه الاستبدادي وفساده الأخلاقي، فإن الأوساط الشعبية المتدينة عندما ترى عالما كبيرا ومعروفا بالتقوى والصلاح، كالشيخ البهائي أحد مفاخر الشيعة، وهو يجاري هذا الحاكم ويتعاون معه، فإنها ستقبل ذلك لا محالة، وتتحمل الظلم والفساد الذي تراه. لماذا؟ لأن هذا الحاكم وإن كان يعمل أعمال سائر الخلفاء، ويحكم على طريقتهم، إلا أنه يختلف عنهم بشيء مهم جدا: إن حب عليّ يملأ قلبه، وفي عروقه تجري الرغبة العارمة في الانتقام لدم الحسين.." الأثر الصفوي في بعض العقائد التفصيلية وقد ختم شريعتي كتابه الفريد من نوعه بفصل طويل في المقارنة بين بعض أهم المعتقدات الشيعية، كيف كانت في التشيع العلوي ثم بأية حال عادت في التشيع الصفوي، وهو في ذلك يبين مقدرة الصفوية على هدم الأفكار والمعتقدات، ليس بردها أو نقضها، بل بتحويرها وإفراغها من مضامينها الإيجابية، والانعطاف بها إلى حدود من الغلو غير مقبولة. ومنها: العترة، والعصمة، والوصاية، والولاية، والإمامة، والعدل، والتقية، والسنة والبدعة، والغيبة، والشفاعة، والاجتهاد والتقليد، والدعاء، والحج. ولا أستطيع أن أفصل الكلام في هذه القضايا، وإلا طالت هذه السلسلة أكثر من اللازم.. وأخيرا... التحول الهادئ يقول شريعتي ملخصا عبقرية الصفوية: "هكذا تبدل المذهب بشكل هادئ، بحيث لم يشعر المجتمع بهذا التبدل والتحول. لقد كان التغيّر هذه المرة من الداخل، ولم يلتفت أحد إلى أن مذهبا جديدا قد حل مكان المذهب القديم، ومن هنا فإن البعض ما زالوا -حتى بعد مرور أربعة قرون- يستثقلون الاصطلاح الذي أستخدمه في بحوثي ومحاضراتي للتعبير عن هذا النمط من التشيع الجديد، أي (التشيع الصفوي)، فيما البعض الآخر يستفزّهم هذا التعبير وينظرون إليه نظرة ريبة وغضب". لقد كانت كثير من بذور التشيع الصفوي موجودة قبل هذا العصر، وبخاصة في القرون الثلاثة التي سبقت العهد الصفوي. لكن الصفوية هي التي عملت على جمعها وإبرازها وإعطائها قيمة أكبر على حساب غيرها، إضافة إلى ما استحدثته من جديد.. يتبع...