تداول على المشاركة في الحكومات المغربية العديد من الوزراء، لكل منهم قصته الخاصة في كيفية الوصول إلى مقعده في الوزارة، من خلال مساهمة كل واحد في النشاط السياسي للبلد سواء من داخل أحزاب الحركة الوطنية وامتداداتها في الساحة السياسية، أو من خلال الانتماء إلى عائلات مخزنية تاريخيا، أو عبر بوابة التكنوقراط الذين حفل بهم المشهد السياسي المغربي على طول تاريخه، في هذه الحلقات نحاول تتبع خيوط التاريخ السياسي للمغرب من خلال تاريخ بعض وزرائه الذين بصموا الحياة السياسية للبلد. اسمه يسبقه، كان يبعث الرعب في النفوس، وحين كان يدلف إلى مجالس الحكومة ببذلة مدنية أنيقة، لم تكن تفضحه غير نظراته التي لا تستطيع أن تخفيها النظارات التي يضعها على عينيه، فقد كانت حادة ينبعث منها شيء أقرب إلى زرع الخوف منه إلى الاطمئنان والاستئناس. كانت صورته المنطبعة في الأذهان بحروبه التي خاضها خارج البلاد، ثم وجه عبرها الطلقات إلى أبناء جلدته في الريف والدار البيضاء، تسبق خطواته وهو يمشي في اتجاه مكتبه في وزارة الدفاع، أو نحو عالمه الذي صاغه بكثير من التهويل في وزارة الداخلية، إنه الجنرال محمد أوفقير. تقبل التحية العسكرية من الضابط كويرة، الذي سيشارك في المحاولة الانقلابية الفاشلة في السادس عشر من غشت 1972، ثم نظر إلى ساعته التي كانت تقيس الثواني، وقال موجها كلامه إلى الضابط الماثل أمامه: «لقد قطعت المسافة بين القاعدة العسكرية في القنيطرة والمكان الذي نلتقي فيه خلال فترة تقاس بكذا من الدقائق والثواني». كان ذلك يعني أن الرجل أكثر دقة في احتساب الزمن والمواعيد، وربما أراد الإيحاء لذلك الضابط بأن التوقيت الذي سيكون مطلوبا منه لإنجاز المهمة التي تنتظره سيقاس بالثواني، ما بين تصويب فوهة المدافع واقتناص الطائرة الملكية لدى دخولها إلى الأجواء المغربية في ذلك المساء المرعب من تاريخ البلاد. غير أن ما كان يزيد في نقل صورة العسكري المغامر، أنه استل يوما مسدسه داخل مجلس حكومي ورفعه في اتجاه رأسه مهددا بالقول: «أفضل أن أطلق رصاصة على رأسي من أن أتقبل مشاركة معارضي النظام في الحكومة». كان الحدث مفاجئا للملك الحسن الثاني نفسه، فهو لم يتعود أن يواجهه أي عسكري أو مدني بمثل هذا التهديد، وقد تعمد أوفقير أن يزايد عبر الإيحاء بإمكانية التضحية بنفسه «فداء للنظام» الذي كان يقدم نفسه كأحد أبرز الأوفياء له. من يومها سيعطي الحسن الثاني أوامره بمنع حمل السلاح في الاجتماعات الرسمية، بل إن اللقاءات التي كانت تتم على مستوى قادة الدول في المؤتمرات التي استضافها المغرب، كانت تتحاشى أن يحمل أي زعيم مسدسا محشوا بالرصاص. وربما كان الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي، لدى مشاركته في قمة إسلامية في الرباط، استثناء في حمل السلاح، غير أن الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، الذي لم يكن مسدسه يفارقه، امتثل يوما في قمة فاس العربية لعام 1982 لهذه القاعدة البروتوكولية، وترك مسدسه ودخل مبتسما إلى قاعة المؤتمر، حيث صافح غريمه الرئيس حافظ الأسد. عندما كان محمد الغزاوي مديرا للأمن بعد استقلال المغرب، تصاعدت انتقادات عن أن ولاءه لحزب الاستقلال جعله يسخر الجهاز لفائدة الحزب، أو هكذا على الأقل بدا للجهات التي لم تكن مرتاحة إزاء تنامي نفوذ الحزب العتيد. كانت الإدارة العامة للأمن الوطني، إلى جانب إدارات وقطاعات أخرى، لا تزال تضم متعاونين فرنسيين، بالنظر إلى استمرار النفوذ الفرنسي إلى حين إبرام الاتفاقيات النهائية التي تقضي برحيلهم وتعويضهم بأطر مغربية. ظل الكولونيل أوفقير يدفع في اتجاه السيطرة على قطاع الأمن، وكانت مبرراته في ذلك تستند إلى انتشار الفوضى والاضطرابات التي رافقت الإجراءات التي همت حل جيش التحرير بغاية إدماج عناصره في القوات النظامية. وفي يوليوز 1960، عين أوفقير مديرا عاما للأمن الوطني، واستقدم عسكريا آخر هو الضابط أحمد الدليمي، ليكون مديرا له بالنيابة، في إطار توجه كان يروم، من وجهة نظره، إعادة تنظيم جهاز الأمن وإحداث شعبة خاصة للاستخبارات يطلق عليها اسم «الكاب واحد»، الذي كان عمله محدودا قبل مجيء الجنرال. كان رئيس الحكومة السابق مبارك البكاي يتولى وزارة الداخلية في حكومة ترأسها الملك الراحل محمد الخامس، ولم يكن، بصفته عسكريا سابقا، يمانع في أن يتولى إدارة الأمن عسكري آخر، ذلك أن ردود أفعال بعض الأشخاص المنتمين إلى المقاومة وجيش التحرير دفعت السلطات إلى الحذر إزاء حدوث مواجهات جديدة، بعد أن عرفت البلاد موجة أعمال عنف. وقد استغل أوفقير سمات المرحلة ليفرض قبضته الحديدية على جهاز الأمن، وسيكون ذلك التطور بمثابة منطلق لتحقيق طموحات أكبر، ستبرز بعد ترقيته إلى رتبة جنرال وإسناد وزارة الداخلية إليه في غشت 1964، خصوصا بعد تداعيات الصراع السياسي الذي كان قد بلغ أوجه عند تقديم المعارضة لملتمس رقابة للإطاحة بحكومة أحمد اباحنيني. كان الجنرال أوفقير قد اعتلى الواجهة، على خلفية حرب الرمال التي دارت على الحدود الشرقية بين المغرب والجزائر، وتمكنت القوات المسلحة الملكية من دحر الجيش الجزائري، بل إنها كادت تصل إلى وهران، لولا أن الملك الراحل الحسن الثاني أمر بوقف العمليات العسكرية، بعد أن استنفدت أغراضها المتمثلة في توجيه رسائل قوية إلى الجيران الجزائريين. وكانت الأوضاع الداخلية في البلاد تميل إلى مواجهات مفتوحة بين السلطة والمعارضة التي كان يجسدها الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. اهتدى أوفقير، في غضون هذه التطورات، إلى تصوير المعارضة كشيطان كبير، حدث ذلك لدى الإعلان عن إحباط ما أطلق عليه «مؤامرة 1967»، التي أطلقت يد الجنرال في كل شيء، قبل أن يكتشف الحسن الثاني أن المسألة يطبعها الكثير من التهويل والمغالاة، بدليل أنه أصدر عفوا عن المعتقلين في تلك الأحداث لتعبيد الطريق أمام عودة الانفراج، لولا أن تورط الجنرال أوفقير وبعض مساعديه في الملف الغامض لاختطاف واغتيال المعارض المهدي بن بركة سيعيد الوضع إلى نقطة الصفر، وسيضع المزيد من الأسوار والحواجز أمام التقارب الذي كان على وشك الحدوث بين القصر والمعارضة. كان صعبا على الملك الحسن الثاني أن يتقبل ردود الأفعال المنتقدة لنظامه، وقد شرع في مباشرة الحكم في سنواته الأولى، وكان أوفقير، إلى جانب آخرين، يصورون له الأمر بالطريقة التي تمكنهم من فرض نفوذهم تحت شعار الدفاع عن النظام. وسيحتاج الأمر إلى سنوات عدة، ليكتشف الحسن الثاني أن الرجل العسكري، الذي أشار إليه بحدوث أول محاولة لاغتياله وهو لا يزال أميرا ووليا للعهد، هو نفسه الذي سيتآمر عليه في المحاولة الانقلابية في الصخيرات، أي الجنرال محمد المذبوح الذي كان موضع ثقة عمياء. كذلك سيكون حال ومآل الجنرال محمد أوفقير، الذي وضع توقيعه على مدرسة الرعب خلال أكثر من عقد من الزمن، اكتشف بعده الملك الحسن الثاني أن ذلك الرعب لم يكن سوى مقدمة بسط نفوذه، وحين بدا للجنرال محمد أوفقير أن الاستئثار بالسلطة لا يمكن أن يتم بوجود أكثر من رأس على هرمه، فكر وخطط لمحاولته الانقلابية الفاشلة في غشت 1972، والتي انتهت بتصويب رصاصة أو أكثر إلى رأس الجنرال، الذي قالت رواية رسمية إنه انتحر شعورا منه بالتورط في الخيانة. كان الجنرال محمد أوفقير الوزير الوحيد، الذي استمر في الجهاز التنفيذي وهو يحمل على عاتقه حكما بالسجن المؤبد أصدرته محكمة الجنايات الفرنسية في يونيو 1967، بتهمة التورط في اختطاف واغتيال المعارض المهدي بن بركة. فقد بلغ الأمر بالملك الحسن الثاني لأن يحتفظ بوزير داخلية مدان، لأنه لم يتقبل الطريقة التي تعاملت بها فرنسا مع بلاده في الموضوع. فقد روي، مرة، أنه كان على استعداد لأن يسمع من السلطات الفرنسية كل الحجج المتوفرة لديها، معبرا عن قابليته لدراستها والتمعن فيها، لكن في إطار نوع من الاحترام المتبادل. وأضاف، في جانب من روايته، أن الجنرال أوفقير أقسم أمامه بأغلظ الأيمان أن لا يد له في القضية. ما من شك في أن ذلك الحكم ظل يؤرق الجنرال، الذي كان يعتبر نفسه ابنا شرعيا لفرنسا التي خدمها في الجيش وفي السياسة، ولم يتقبل في أي مرحلة كيف أن زيارته إلى باريس أصبحت محظورة عليه، لكنه لم يملك الشجاعة التي دفعت شريكه العقيد أحمد الدليمي إلى الذهاب إلى فرنسا وتسليم نفسه وخضوعه لمحاكمة خرج منها بريئا لاعتبارات يعرفها الذين أصدروا ذلك الحكم لفائدته. بالقدر الذي ساءت فيه العلاقة بين الجنرال أوفقير ومساعده أحمد الدليمي، على خلفية تداعيات قضية المهدي بن بركة، بالقدر الذي زادت طموحات الجنرال في الاستحواذ على السلطة بأي وسيلة، لعله كان يريد إسقاط النظام من أجل انتزاع براءة خطط لها، إلى درجة أن ثمة من يذهب إلى أنه كان بصدد إعداد بيان للرأي العام حولها، في حال استتب له الوضع، بل إنه من خلال توريطه لشخصيات من المعارضة في مخططه، كان يسعى إلى تبرئة الذمة على طريقته. لم تسلم رموز سياسية من بطشه وجبروته، وكان أكثر ما يخشاه خصومه أن يتناهى إلى علمه أنهم ينبشون في ملفاته السرية، وساعده في ذلك كتمان الكثير من الأصوات التي بدأت تشك في نواياه. لقد تورط مباشرة في مقتل المهدي بن بركة، الزعيم التاريخي للاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وطالب علنا بشنق زعيم حزب الاستقلال علال الفاسي، وكان يشرف شخصيا على إدارة معتقل دار المقري وباقي الزنازن السرية، لكنه حين غيبه الموت، لم يمش أحد في جنازته، يوم حمل جثمانه إلى بلدة عين الشعير. لا يمكن الحديث عن مغرب ما بعد الاستقلال وعن مضاعفات الصراع السياسي المتسم بذروة الاحتقان دون استحضار تجربة الجنرال في وزارة الداخلية، ومع أنها لم تدم طويلا، فإن بصماته المتسمة بالشدة والعنف والتنكيل بالمعارضين، تحولت بعد غيابه إلى مدرسة استمر تأثيرها لفترة أطول. ذهب أوفقير وبقيت الأوفقيرية عنوانا لمرحلة وضعها المغاربة خلفهم، وحين يتأتى تقليب صفحات تلك المرحلة، تبرز الطموحات الهوجاء لرجال استفردوا بالسلطة والمال، ولم تتوقف مطامعهم عند هذا الحد، بل أوصلتهم إلى الانتحار أو النحر على أيدي آخرين.