بالنسبة إلى عز الدين الخطابي الريفي، الأستاذ الباحث في المدرسة العليا للأساتذة في مكناس، فإن مجال التربية والتكوين في المغرب ظل، منذ بداية الاستقلال إلى اليوم، حقلا للتجارب التي غالبا ما أبانت عن فشلها، سواء على مستوى جودة البرامج والمناهج أو على مستوى التسيير والتأطير أو على مستوى الاستجابة لحاجيات المجتمع الاقتصادية والثقافية. وقد أشار الأستاذ الباحث، في الحوار الذي ننشره ضمن الملحق التربوي لهذا الأسبوع، إلى أن المنظومة التربوية ما تزال، إلى حد الآن، تفتقر إلى الآليات اللازمة للقيادة ولا تولي ما يكفي من العناية لتطوير القدرات التدبيرية وتعميم الممارسات الجيدة... - يوثر كثيرون الحديث عن التعليم في المغرب باعتباره معضلة، وما يعطي هذا الموقف الكثير من المصداقية هو عجزنا، حتى الآن، عن إحداث تراكم عقب مختلف التجارب الإصلاحية، فما يحصل هو أن كل إصلاح يقطع مع ما قبله وهكذا.. وكان آخر هذه التجارب ما يعرف اليوم بالمخطط الاستعجالي، كيف تفسرون هذا الوضع؟ لا أحد يجادل في كون مجال التربية والتكوين في المغرب ظل، منذ بداية الاستقلال إلى اليوم، حقلا للتجارب التي غالبا ما أبانت عن فشلها، سواء على مستوى جودة البرامج والمناهج أو على مستوى التسيير والتأطير أو على مستوى الاستجابة لحاجيات المجتمع الاقتصادية والثقافية. وأريد بالمناسبة، الاستشهاد ببعض ما ورد في تقرير المجلس الأعلى للتعليم حول حالة منظومة التربية والتكوين وآفاقها، لتشخيص معضلة التعليم، فقد تم الإقرار، دون لبس، بوجود اختلالات متعددة داخل هذه المنظومة تنعكس، سلبا، على جودة التعلمات وعلى مكتسبات المتعلم وتجد مصدرها في خمس إشكاليات مركزية جعلت منظومة التعليم لم ترْقَ إلى مستوى الانتظارات، حيث لم تعد المدرسة العمومية تضمن، بالضرورة، أفقا مهنيا لخريجيها، بل أصبحت مجردَ أداة لإعادة إنتاج الفوارق الاجتماعية، وهو ما يفسر تنامي حالات الهدر المدرسي وتولُّدَ الشعور العامّ بانعدام الأمن داخل محيط المدرسة وتفشي ظواهر سلبية أخرى، مثل الغيابات المتكررة لبعض المُدرِّسين والدروس الخصوصية المفروضة على التلاميذ... إلخ. والحال أن أي إصلاح فِعليّ يجب أن يواجه هذه المعضلات بحزم وأن يتصدى لها ضمن رؤية شمولية نقدية تروم تفعيل مبادئ التقدم والتحديث والتنمية والمواطَنة، عبر إشراك مختلف فعاليات المجتمع. فالأمر يتعلق بمستقبل وطننا، وأكاد أقول بمصيره، بالمعنى «الهايدغري» لكلمة مصير. - غالبا ما يربط الإطار الحكومي أزمة التعليم في المغرب بكونه ينتج «معطّلين»، لماذا لم تعد المدرسة المغربية عنصر استقطاب؟ يمكن اختزال هذا الأمر في مفهوم أساسي وهو الحكامة. وعلى المستوى التربوي، تستدعي الحكامة تدبير العملية التعليمية -التعلمية بشكل جيد، عبر عقلنة الأنشطة التربوية كضمانة لتحسين المردودية، حيث يكون الفضاء التربوي ميدانا للمشاركة الفعالة ولتشجيع المبادرات في إطار تواصلي مسؤول قائم على الشفافية والتحاور والعقلنة، أي على قيم ديمقراطية بالأساس. فما هو الموقع الذي تحتله هذه القيم داخل مؤسساتنا؟ بالعودة إلى التشخيص الوارد في تقرير المجلس الأعلى للتعليم بخصوص الثغرات التي يشكو منها نظامنا التعليمي، على مستوى «إنتاج المُعطَّلين» وتفشّي السلوكات اللا مدنية وما يرتبط بها من ظواهر، كالعنف والغش... إلخ. يلاحَظ أن المنظومة التربوية ما تزال، إلى حد الآن، تفتقر إلى الآليات اللازمة للقيادة ولا تولي ما يكفي من العناية لتطوير القدرات التدبيرية وتعميم الممارسات الجيدة. وتظل المعضلة الأساسية متمثلة في اهتزاز ثقة المحيط الاجتماعي في المدرسة التي لم تعد تضمن، بالضرورة، أفقا مهنيا لخريجيها، مما سيساهم في تضخم معدَّل بطالة الخريجين، بسبب الطلب المحدود على الكفاءات وتقلُّص فرص ولوج الوظيفة العمومية، من جهة، والعرض المتزايد لحاملي الشهادات العليا والدبلومات، من جهة أخرى. يتضح، إذن، كيف أن المشكل مرتبط في أساسه بالتدبير الجيد لمختلف الشؤون (السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية والتربوية) أي بالحكامة الجيدة، كما قلنا. - تكوين الأطر هو أحد المهمات الحيوية في القطاع، غير أن ما يُلاحَظ في السنوات الأخيرة هو العودة من جديد إلى ما يسمى التوظيف المباشر، حيث «يُلقى» بحاملي الشهادات -تحت ضغط اجتماعي- إلى ممارسة التدريس دون تكوين، ومنهم من يكلَّفون في إطار ما يعرف اليوم ب«المواد المتآخية»، يكلفون بتدريس مواد بعيدة عن تخصصاتهم الجامعية، والنتيجة هي حل مشكلة الخصاص أو البطالة بخلق مشكلات أعوص لعل أخطرَها ضعف الجودة وضعف التواصل في الحياة المدرسية... ألا يؤدي هذا الوضع إلى التشكيك في مدى توفر إرادة حقيقية للإصلاح؟ يتناقض ما يتم إجراؤه في السنين الأخيرة، في إطار ما يُعرَف بالتوظيف المباشر، تماما، مع منتظَرات الميثاق الوطني للتربية والتكوين من أجل إصلاح المنظومة التربوية، إذ كيف يمكن ضمان جودة التعليم في الوقت الذي يحتاج «المكوِّن» إلى تكوين؟! فالعملية التعليمية التعلمية لا تتم بشكل اعتباطي، بل تعتمد طرقا ووسائل بيداغوجية وديداكتيكية وتحيينا للمعارف. والملاحَظ أن حاملي الشهادات العليا الذين تم توظيفهم بشكل مباشر لممارسة مهنة التعليم غير مسلحين بالعُدّة الكافية والضرورية لهذه المهمة. لذلك فإن المطلوب هو وضع جدولة صارمة للتكوين المستمر في مؤسسات تكوين الأطر التعليمية ومتابعة هذا التكوين على مدى السنة وليس لمدة أسبوع أو أسبوعين، مع مراقبة مستمرة لحصيلة هذا التكوين، نظريا وتطبيقيا. وبالرغم من كون عملية التوظيف المباشر ناجمة عن الخصاص الكبير والمتزايد في قطاع التعليم، فضلا على أنها حق من حقوق الحاصلين على شهادات عليا، فإن ذلك لا يمنع من التأكيد على كونها ستضر بمصلحة المتعلم وستشكل عرقلة أمام عملية الإصلاح، ما لم يتمَّ وضع برنامج صارم للتكوين المستمر للمدرسين. والشيء المثير هو أن هناك اعترافا رسميا واضحا في التقرير المذكور، بكون بعض المدرسين الممارسين منذ سنوات لا يتوفرون على المؤهلات اللازمة للقيام بمهمتهم، لأن تكوينهم الأساسي يتسم بالنقص، في الغالب. كما أن محدودية التكوين المستمر تتحول، بدورها، إلى عائق أمام الرفع من كفاياتهم في التدريس. وإذا كان هذا الأمر ينطبق على المزاولين لمهمة التدريس منذ سنوات، فما بالنا بالنسبة إلى من كُلِّفوا بهذه المهمة دون تكوين ولا تأهيل؟ - ينظر الأستاذ عبد الله العروي بتحفظ كبير إلى مشاريع فلسفية كثيرة في المغرب تتخذ مما يُعرف ب«ما بعد الحداثة» نموذجا مفاهيميا وموضوعاتيا ولغويا أيضا، لكون المغرب ما يزال لم يحسم بعدُ في سؤال الحداثة، ولكون هذه المشاريع محض ترف فكري، باعتباركم باحثا متمرسا في الفكر الفلسفي، بحثا وترجمة وكتابة، هل تتفقون مع هذا الطرح؟ تُذكِّرني فكرة الأستاذ عبد الله العروي هاته بالنقد الذي وجَّهه فيصل دراج للمنشغلين بقضايا «ما بعد الحداثة» في ظل الشروط العربية لِما قبل الحداثة، وذلك في مقالته ذات العنوان المثير: «ما بعد الحداثة في عالم بلا حداثة»، حيث اعتبر أن ما بعد الحداثة يعتبر إشكالية أوربية (غربية) لا تنسلخ عن سياقها التاريخي المحايث لها والذي لا يمكن للشعوب غير الأوربية أن تكرره إلا بشكل تابع وفقير يدعو إلى الرثاء والشفقة. وبعيدا عن هذا النقد اللاذع، يتعين موْضعة إشكالية الحداثة وما بعد الحداثة في سياقاتها التاريخية والاجتماعية والثقافية، وهو ما أدركه مفكر حداثي مثل عبد الله العروي، الذي عالج مسألة استنبات الفكر الحداثي -وتحديدا الأنواري- في تربتنا التي تعاني من هيمنة المواقف العتيقة بل والنكوصية المناهضة لكل تغيير. لذلك فإن تحفظه سيُعتبَر مشروعا إذا ما اقتصر المهتمون بفكر ما بعد الحداثة على تداول قضاياها ونقلها كما هي في الغرب، دون الانتباه إلى خصوصية وضعنا «ما قبل الحداثي»، الذي تتجاور فيه عوامل التحديث مع عوامل التقليد. صحيح أننا في حاجة إلى معرفة آراء المفكرين المُصنَّفين في خانة ما بعد الحداثة، من نيتشه إلى باطاي، مرورا بهايدغر وفوكو ودريدا وليوطار وغيرهم، لكننا في حاجة أكثر إلى المنظومة الحداثية، لتدبير شأننا الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي والفكري. - إذا عدنا إلى الفلسفة كمادة دراسية، فقد استفادت من متغيرات اجتماعية وسياسية وتربوية فرضت أن يعاد لها الاعتبار، بعد عقود من التضييق والتهميش، كتعميمها على كل مسالك وشُعب مستويات التعليم الثانوي التأهيلي، غير أن هناك من ينظر إلى هذه الخطوات على أنها أساءت إلى الفلسفة، كنمط من التفكير لم يكن قط للعامة، ترى هل استفادت الفلسفة أم تضررت من هذه الخطوات؟ مما لا شك فيه أننا نشهد عودة الروح إلى الفلسفة وإلى تدريسها، سواء عبر استعارة الخطاب السياسي الرسمي للمفاهيم المنبثقة من معطفها، كالحداثة ودولة الحق وثقافة الحوار... إلخ. أو عبر توسيع قاعدة المنتسبين إليها وتعميمها في كل الأقطاب والشُّعب والجذوع المشترَكة في الثانوي التأهيلي والعمل على فتح شُعَب ومسالك خاصة بالفلسفة والعلوم الإنسانية في الجامعات والزيادة في أعداد الملتحقين بالمدارس العليا للأساتذة لتكوين مدرسي الفلسفة وفتح سلك التبريز في الفلسفة داخل المدرسة العليا للأساتذة في مكناس. والسؤال الذي يطرحه كل مهتم بهذا الوضع الجديد هو: هل يتعلق الأمر بإعادة الاعتبار إلى الفلسفة وإلى درسها، أم إن الأمر لا يعدو كونه استخداما لهذا الفكر، لمواجهة فكر ينعت ب«الظلامي» والمتزمّت. ومهماً يكن، فإن تعميم تدريس الفلسفة يعتبر مكسبا هاما، لأنه سيساهم في توسيع قاعدة المتفلسفين وفي انتعاش الروح الفلسفية القائمة على النقد والاختلاف. ونود الإشارة، أيضا، إلى أن الفلسفة لم تعد فكرا نخبويا، ورغم خصوصية مفاهيمها وطابعها المجرد، فإن أبرز قضاياها في الوقت الحالي مرتبطة بالفاعلية الإنسانية في المجالات السياسية والاجتماعية والإتيقية (الأخلاقية). ونعتقد أن التلميذ المغربي في الثانوي التأهيلي مؤهَّل بما فيه الكفاية للاطلاع على هذه القضايا ومناقشتها واستثمارها، للإجابة عن أسئلته الفكرية والوجدانية والوجودية، بشكل عام. - احتضنت المدرسة العليا للأساتذة في مكناس أولَ تجربة لسلك التبريز في الفلسفة في المغرب، ما هي القيمة المضافة لهذه الخطوة على مستوى الدرس الفلسفي، خاصة، والبحث في مجال الفلسفة، عامة؟ تعتبر تجربة سلك التبريز في الفلسفة أمرا إيجابيا وإضافة نوعية لمسار التكوين في أفق إصلاح المنظومة التربوية، لأن الأمر يتعلق بتعميق معارف وكفايات المنتسبين إلى هذا السلك، كي يشكلوا ما يُصطلَح عليه ب«القاطرة» المساهِمة في تحسين جودة التعليم. لكن هناك مشاكل كثيرة تعترض هذا المسعى، نذكر من بينها: عدم توفر الإمكانيات المادية والبشرية لتحقيق الأهداف من هذا التكوين. وأقصد بذلك عدم استجابة خزانة المؤسسة للحاجيات التي يتطلبها التكوين في سلك التبريز، من كتب متخصصة في حقول فلسفية معينة وإصدارات جديدة ومصادر كلاسيكية ضرورية للبحث، وأيضا، عدم وجود أساتذة مكونين متخصصين في بعض المجالات، مثل الفلسفة اليونانية والمعاصرة وفلسفة اللغة والمنطق وكذلك تعثر الشراكة مع فرنسا -ما دام التبريز تقليدا فرنسيا- وخضوعها لأهواء ومزاجية بيروقراطيتنا. أضف إلى ذلك عدم الانخراط في شبكات الاتصال المعلوماتية وعدم التواصل مع مؤسسات وجمعيات تربوية فرنسية وغير فرنسية، للاستفادة من تجاربها. وأعتقد أنه ما لم يتمَّ تدارك هذه الثغرات، فإن هذه التجربة المتميزة لن تحقق الأهداف المرجوة منها.