هل كان فريق 14 آذار مارس اللبناني يرغب في تطبيع علاقاته مع دمشق؟ نعم يقول أنصار هذا التيار قبل أن يضيفوا «شرط أن يكون من دولة المؤسسات إلى دولة المؤسسات»، أي من الند إلى الند. في هذا الوقت كان النائب وليد جنبلاط، «الدينامو» السابق للتيار الآذاري، قد استكمل التطبيع مع الحكومة السورية بشروطها التي تنص على طي صفحة الخيار الغربي الساعي إلى المواجهة السورية اللبنانية الدائمة وإخراج بيروت من الصراع العربي الإسرائيلي. وكان الخيار الغربي قد انطوى في إحدى المراحل على استخدام لبنان كمنصة لإسقاط النظام السوري. بكلام آخر، كان النظام اللبناني «الند» والسيد المستقل يستخدم كموقع للتصويب الغربي على النظام السوري «الند» والسيد المستقل. والندية هنا تعني القدرة على العداء والمساومة والتحالف معا. والراجح أن التطبيع الحقيقي، في عرف السوريين، كان يعني الانتقال من خيار إلى خيار ومن موقع إلى موقع، حيث لا يكفي الامتناع عن المشاركة في مشروع أو مشاريع إسقاط النظام السوري التي هزمت خلال السنوات الخمس الماضية، وإنما الانخراط في المشروع السوري المناهض لإسرائيل وحماتها الغربيين عبر الالتفاف حول المقاومة اللبنانية. والراجح أيضا أن دمشق كانت تريد للحريري الابن، الباحث عن «رأب الصدع»، أن يستأنف -على الأقل- سيرة أبيه بعد عام 1996 حين كان سندا جديا للمقاومة وحاميا لها من الفتنة الطائفية وسائر النزاعات الأهلية اللبنانية. والحق أن وليد جنبلاط ما انفك منذ شهور ينصح «رفاقه» الحريريين بالسير على رسمه، وبالتالي الإقلاع عن اللغة «القديمة» وتبديل الناطقين بها والمصرين على استخدامها، ويهاجم حليفه السابق سمير جعجع ساخرا من «فعل» إيمانه باستئناف مسيرة العداء للسوريين بدعم غربي وحرب إسرائيلية مظفرة. لم يرضخ الحريري لشروط التطبيع السورية رغم إقراره بها وبدت اللعبة التي يمارسها مكشوفة، بل ساذجة إلى هذا الحد أو ذاك، فقد التقى بالرئيس بشار الأسد، بيد أنه أبقى أحمد فتففت ومصطفى علوش وآخرين ممن كانوا يشتمون سوريا في مواقعهم الأمامية، ومن امتنع طوعا كالنائب باسم السبع جيء بدلا عنه بعقاب صقر الذي كان يعادي سوريا من خارج الحلقة النيابية. وبدلا من أن تنفرج علاقة الحريري بحزب الله، حليف سوريا الأبرز في لبنان والمنطقة، نزل الحريري شخصيا إلى برج أبي حيدر ليتحدث عن نزع السلاح من بيروت، وبدلا من الإخلاص لشعار «الجيش والشعب والمقاومة» الذي تبنته الحكومة الجديدة، حاول الحريري تسويق قرار ظني قد يصدر عن المحكمة الدولية ويحمل الحزب مسؤولية اغتيال الرئيس رفيق الحريري. والملفت في هذه اللعبة أن الحريري قرأ الانفتاح السوري والرغبة السورية في المصالحة مع فريقه من باب «الند» ل«الند»، أي المصالحة مع بقاء شروط التصادم والمساومة والتحالف قائمة مع دمشق، وربما اعتقد أيضا أن المملكة العربية السعودية والدول الغربية توفر له المصالحة بهذه الشروط، بل حاول فريقه الإيحاء بأن سوريا مقبلة على فك الارتباط مع إيران وأنها صالحت الحريري على هذه القاعدة التي تعني اصطفافا سوريا مقبلا مع 14 آذار- مارس في مواجهة حزب الله بتغطية غربية وسعودية، وثمة من أقنع الحريري بأن سوريا فعلت ما يشبه ذلك في السبعينيات عندما وقفت ضد المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية وأيدت المليشيات اليمينية المسلحة بزعامة آل الجميل وآل شمعون وأن ما حصل بالأمس يمكن أن يتكرر اليوم. لا تشي قراءة الحريري وفريقه للعلاقات السورية اللبنانية باحتراف سياسي مطمئن وإنما ببصيرة محدودة وعاطفية قد تكون أخطر على هذا الفريق وعلى لبنان من أسلحة الدمار الجزئي أو الشامل، ذلك أنها تفترض الندية في عالم القوة الأوحد والقوة الأعظم وفي عوالم إقليمية لا ندية فيها بين القوي والضعيف وبين الكبير والصغير والغني والفقير، ولأنها تفترض أن الندية المؤقتة في مواجهة سوريا بدعم سعودي غربي يمكن أن تتحول إلى ندية دائمة، ولأن هذا الفريق يظن أن اللعب على حافة الفتنة يردع الخصم ولأنه يتمنى أن يحصد نتائج الصراع الغربي مع المقاومة عبر المحكمة الدولية، فتزول هي ويبقى هو ومن معه، إلى غير ذلك من التقديرات الطفولية الخطيرة على مصير هذا الفريق ومصير لبنان بأسره. تبقى الإشارة إلى أن الإنجاز الأبرز لثورة الأرز تمثل في تعيين سفير سوري في لبنان سمعناه بالأمس يقول للصحافيين إن الحريري يعرف «واجبه» تجاه سوريا، فيما «نده» اللبناني في دمشق يكاد يصاب بأزمة نفسية جراء العزلة المطبقة من حوله. يملي ما سبق القولَ بأنه ربما كان على الرئيس سعد الحريري أن يصغي جيدا لوليد جنبلاط وليس لسمير جعجع أو، على الأقل، ليس للاثنين معا، فالسيد جنبلاط كان على الدوام ناجحا في قراءته السورية حتى في عام 2005، في حين لم يربح السيد جعجع معركة واحدة في مواجهة السوريين، وقد تسبب في الكثير من الخراب والأذى لفريقه ولبلده في الآن معا. ربما كان على الحريري أن يدرك ان العيش الآمن مع سوريا في هذه المنطقة كان دائما بشروطها، وعلى رأسها الموقف من إسرائيل، وبالأخص الموقف من المقاومة. ولعل الوقت لم يفت بعد للاصطفاف مع جنبلاط الناجح والابتعاد عن جعجع الفاشل.