"من لا يكون صادقا، كيف يستطيع أن يقنع الآخرين إذا كان هو غير مقتنع بما يقول؟! فهذه القناعة هي التي ننشدها وليس هو تجميع الناس وربطهم بأهوائهم وبشتى ألوان المصالح أو تعميم الضلال عليهم ، ولو كانت هذه المصالح وما يلازمها من أهواء مقابلة هي ذات أهمية ، ويجب أن نحصيها ونناضل لأجل تحقيقها. ولكن المهم ، والذي يستحق توجيه كل العناية هو إثارة الناس في أعماقهم لا تحريك سطحياتهم ؛ لأن ثورة الأعماق تبقى ، أما ثورة السطح فتذهب بها الزوابع. فإذا تحدثتم فليكن قلبكم في كل ما تقولون وما تفعلون ، ولينر عقلكم طريق القلب". بين هذه الكلمات وما آل إليه موقف زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي عشية احتلال العراق وتحرش الأمريكيين بالمنطقة بون شاسع. ومع ذلك لم تكن تلك سوى كلمات كمال جنبلاط الذي عقد ذات مرة قرانه على السيدة مي شكيب أرسلان لكي ينجبا معا الزعيم الدرزي وليد جنبلاط بك. لا يتعلق الأمر بانقلاب 180 درجة التي دوّخ حلفاءه بالأمس القريب بل يتعلق الأمر بعودته إلى الحضن الطبيعي بمعدل 180 درجة أيضا؛ وهو ما أثار استياء فائقا في صفوف 14 آذار. ما يثير الاستغراب هو كيف يستغرب هذا الفريق موقف جنبلاط وقد كان أحرى أن يثير استغرابهم وقوفه طيلة هذه الفترة إلى جانبهم من خلال اللقاء الديمقراطي الذي يضم من أصل 12 نائب 6 نواب كلهم من التقدمي الاشتراكي؟ كيف أمكن جنبلاط الابن أن يقنع 14 آذار بموقفه السابق وقد بدا واضحا أن الأمر كما عبّر عنه بعد رجوعه إلى صف حلفاء الأمس بأنها كانت غلطة يجب أن يقول وقانا الله شرها كانوا فيها صغارا وضحية لعبة الكبار. من هم يا ترى هؤلاء الكبار ومن لعب بضمير الرجل وأين كان عقله يوم قيل له أن الأمريكان إن كانوا باحثين عن مصلحة فإنهم يرجحون التعامل مع الدول والقوى الكبرى لا مع الضعفاء. ما الذي جعل جنبلاط يتحول تدريجيا إلى صف سوريا وحلفائها في المنطقة.. وما الذي جعل أكبر منزعج من سلاح المقاومة حتى قبيل 7 أيار يتحدث عن أهميته الاستراتيجية اليوم.. كيف لعب الكبار بعقله ليدخلوه النفق كأداة صغيرة كما عبر عنه في لقاء صحفي غداة استضافته للسفير السوري بالجبل؟؟ هل كان جنبلاط وحده الذي حفظ بنود درس اتفاقية الدوحة في أيار من سنة 2008م دون غيره من 14 أذار الذين لا شيء لديهم يخسرونه ، أم أنه مع وجود الحريري في الموقع الرئاسي سيجعل الخناق يضيق يوما بعد يوم على الحكيم جعجع ، ليصبح تكتل 14 آذار واحدة من حكايات تداعيات حرب تموز 2006م. ما يميز الظاهرة الجنبلاطية هو صراحتها التي اختصرت الطريق إلى منطق المصالحة والاعتراف وترطيب الخواطر لا العناد والإصرار على الغلط. ففي تراث الجنبلاطية وموقعيته في لبنان الكثير مما يشفع لكل أخطائه حينما تتداركها لغة الضمير بالتوبة السياسية، على خلاف ما هو عليه التراث الدموي الذي لا يزال يلاحق سمير جعجع. وحينما يدرك سعد الحريري أن عصر التوبة من 14 آذار حتمية مفروضة على مستقبله السياسي ، فلن يبقى من تلك الحكاية سوى بعض ذكريات مكر التاريخ . وهو بالفعل كذلك حينما ابتسم لجعجع عشية حرب تموز وخربط خريطة التحالفات التي ارتبكت تحت طائلة حدث اغتيار الحريري. شخصيا لم أكن أتوقع أن ينجح وليد جنبلاط في استعادة موقعه الطبيعي ضمن مسار المعارضة التي سار باتجاهها اليوم. لكن ما بدا حتى الآن أن وليد جنبلاط قد ناور بشكل يؤكد على أنه لم ينجح فحسب بل قلب المعادلة من جديد وأربك وضع تحالف 14 آذار. أي أنه يتحرك نحو المعارضة محمّلا بمرطبات وذبائح الغفران وأوراق كثيرة. إنه لم يأت المعارضة خاوي الوفاض وصفر اليدين. وإذا كان وليد جنبلاط استطاع بالأمس إقناع شريحة من حلفائه داخل الطائفة الدرزية بمواقفه ووجهة نظره التي بناها على ذكرى مقتل أبيه السيد كمال جنبلاط ، فإن التحولات الراهنة كانت حتمية وإلاّ بات موقفه ضعيفا حتى داخل الطائفة التي انتظرت وسايرت موقفه ولكنها لم تقتنع في العمق بخيار ظلت نافرة منه حتى في أكثر اللحظات حرجا في تاريخها، نظرا لما سيجر عليها من نتائج لا ترضي توجهها العام . لا سيما في وضع تتحرك فيه قوى فاعلة من داخل الطائفة من شأنها أن تؤدي إلى شرخ حقيقي داخل الطائفة التي عرفت بمواقفها العروبية واصطفافاتها مع القضايا الوطنية الكبرى. ففي مجال لم يعد جنبلاط هو وحده اللاّعب فيه بامتياز نتحدث عن دور قوى لوئام وهاب و طلال أرسلان يصبح التحالف مع 14 آذار وزرا ثقيلا في ذمة وليد جنبلاط . وهكذا استطاع الزعيم الدرزي أن يعيد الطائفة إلى اصطفافها الطبيعي . قريبا سصبح وليد جنبلاط يتحدث عن السيادة والاستقلال والمقاومة وسوريا والعروبة أكثر مما قد نسمعه من أرسلان أو وئام وهاب أو سمير القنطار... قد نخطئ إذا ما نظرنا إلى مواقف الوليد جنبلاط بمنأى عن الشروط التي تتحكم بالمزاج السياسي اللبناني عموما والمزاج السياسي للحزب التقدمي الاشتراكي على وجه الخصوص. وفي مثل هذه الوضعية الحرجة يصبح من غير المعقول محاكمة النوايا والمواقف بناء على المثل الإنشائية للأحزاب مهما بدت أكثر تقدمية. ففي لبنان الكل لا يملك تخطي استحقاق الطائفة ، والجميع من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال لا يملك لا سيما في حالة ضعفه أن يخرج من البترياركية العشائرية أو الطائفية أو الوصائية والحمائية. ذلك هو قدر لبنان في شروط دولية وإقليمية وسياسية راهنة. وإذا بدا موقف الوليد جنبلاط أكثر زئبقية وانتقالا في خضم مفارقات مشهد يصعب التنبؤ باتجاهات الرأي فيه كما يصعب التنبؤ بمنطق استقطاباته وتحالفاته الداخلية ، فإن ذلك هو الوجه الأكثر انفضاحا في اللعبة السياسية في لبنان ، ولأن المواقف الجنبلاطية تفضح ما قد تخفيه أكثر الأطراف اللبنانية لا سيما في تكتل 14 آذار. لم تكن مفارقة الموقف الجنبلاطي سابقا في أنه استطاع التكيف وهو التقدمي اليسار ي مع قوى مناهضة لمكونات سياسية تتقاطع مع اليسار ومع الفكر القومي الذي كان المرحوم كمال جنبلاط من بين فعالياته الكبرى. بل إن المفارقة هي كيف أمكنه أن يندمج حتى ذلك الوقت مع تيار يترنح بين الأليغارشيا والطائفية واليمينية والخضوع للوصايات؟ لقد اندفع الوليد جنبلاط إلى أقصى ما أمكن في مواقفه السابقة ضد أطراف عديدة كان حليفها قبل ذلك. يبدو لي أن مواقف جنبلاط تغيرت فور انتصار المقاومة وبدء مؤشرات تراجع الموقف الأمريكي في موضوع العراق ومشروع الشرق الأوسط الجديد . فلم يكن من الحكمة أن يكون التراجع مجانيا لا يمنح الأطراف المنزعجة من تصريحات جنبلاط أوراقا على الأقل تستطيع من خلالها تقدير الموقف. كان جنبلاط طيلة تلك اللعبة السياسية التي تلت النزاع بين المعارضة والموالاة يستجمع أوراقا تسنده في الموقف الأخير الذي كان دائما هو الموقف الطبيعي لحزب التقدم الاشتراكي. لقد تراجع عن مواقفه وهو في لحظة فوز انتخابي أبدى زهده في أغلبيته واتهمها بأنها لم تكن انتخابات ديمقراطية بل هي انتخابات طائفية ودعا إلى تغيير الدستور والتحيز لقضايا الشعب والفلاحين والمحرومين؛ أي العودة إلى الخطاب السياسي التقليدي لحزب التقدم الاشتراكي ، وإعلان وحدة الهدف مع المعارضة التي ظل حتى ذلك الوقت أحد أبرز خصومها. والمهم في هذا الانقلاب الجنبلاطي على قوى 14 آذار جاء صريحا إلى حد إعلان جنبلاط تحمل مسؤولية مواقفه الخاطئة لا سيما ما تعلق بزيارة واشنطن وما تلاها من تحالفات وصفها بالخاطئة. هو إذن تخطيء لمواقف تكتل 14 آذار بالجملة. لقد كان من بين الأسباب التي لجا إليها السيد وليد جمبلاط لتبرير انسحابه من فريق 14 آذار ، قوله أن ذاك التحالف كان مرحليا وأنه زال بزوال أسبابه ، أي بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن وبانسحاب القوات السورية من لبنان ، ثم المحكمة الدولية التي اعتبر مؤخرا أنها يجب أن تكون لفرض الحقيقة لا لإثارة الفوضى ؛ أي لا لتسييس المحكمة ، وهو الموقف الذي يأخذ به السيد حسن نصر الله عن حزب الله وتأخذ به جميع أحزاب المعارضة اللبنانية وتؤيده سورية . فهل هذه الأسباب هي التي دفعت السيد جمبلاط إلى قلب البذلة والمواقف بدرجة 180 ، أم إن هناك أسباب أخرى ربما نرجعها إلى إعادة قراءة السيد وليد جمبلاط للمستجدات السياسية بالمنطقة وبالتحول الدولي ، حيث سقطت جميع الاختيارات التي تم التنظير لها في وقت كان الجميع يتحدث عن مشروع الشرق الأوسط الكبير والجديد . كان جنبلاط ينظر إلى التحولات في مواقف الحلفاء الافتراضيين؛ السعودية تقترب أكثر من سورية .. هناك مغازلة أمريكية لم تتوقف منذ اعتلا أوباما كرسيي الإدارة الأمريكية لكل من إيران وسوريا وتغيير استراتيجية التدخل العسكري مع تنامي الأزمة الاقتصادية الدولية.. بريطانيا تدعو للتفاوض مع حزب الله .. إسرائيل تعترف بهزيمتها وتؤكدها عبر تقرير فينوغراد وتستبعد الحرب على الأقل بالمعنى الذي كان في واردها يوم اعتبرت مهمة تصفية الحزب ونزع سلاحه أمرا تملك البت فيه ... لم يكن جونبلاط يحتاج إلى قراءة أعمق للمشهد الآخذ حينئذ في التحول. بل كان يبحث عن أوراق تجعل عودته إلى حضن المعارضة يأتي بثمن يقوي موقفه كما يقوي المعارضة ويمنحه مصداقية تمحي تاريخ ضوضائه داخل اللقاء الديمقراطي ضد سوريا والمعارضة. لأن ما كان يراهن عليه جنبلاط هو التدخل الأمريكي القاضي بالإطاحة بالنظام السوري و قضاء إسرائيل على حزب الله ونزع سلاحه؛ والنموذج الماثل أمامه حينئذ هو العراق. لكن هذا الحلم سرعان ما تزلزل مع هزيمة إسرائيل وتحول في الإستراتيجية الأمريكية وخروج سوريا منتصرة في مناورتها السياسية . وإذن ماذا بقي لجنبلاط من آفاق داخل 14 الآذار الذي لن يكون له فيه أي موقعية تتناسب مع ما كان يطمح إليه في الدولة ولا تناسب فيما يطرحه الحزب الاشتراكي التقدمي. وإذن الموقف الاستراتيجي يحتم الانقلاب حتى قبل إنشاء الحكومة وقبل أن تتكرس التحالفات الجديدة ضمن معادلة يصعب اختراقها مستقبلا. المواقف الجنبلاطية ظلت في تصاعد تسلسلي أفضى إلى الموقف الأخير الذي هز تحالف 14 آذار وأربك معادلة الفوز الكاسح للموالاة. إنها لعبة جنبلاطية بامتياز عوضته كل الفشل في تقدير الموقف في الفترات الماضية . المواقف التي لم يبدل جهدا لتبريرها بل لجأ إلى فضيلة الاعتراف بخطيئتها وتحمله المسؤولية الشخصية في تلك الأخطاء. وإذا كان ذلك هو هاجس جنبلاط ، فإن المعارضة لاسيما حزب الله أدرك هذه الهواجس وتفهم وضعية جنبلاط وقبل برجوعه إلى صف المعارضة وتوسط له في طي ملف الخصومة مع دمشق التي شكلت هاجسا آخر لجنبلاط ، طالما أرّقه. لقد حقق جنبلاط بموقفه هذا جملة من الأهداف أهمها ما يتعلق بتعزيز موقف الدروز الذين كانوا على وشك الانشقاق الذي كاد يبلغ موقع عقل الطائفة. لقد عاد الدروز اليوم مع ثلاثة زعماء إلى الخندق الطبيعي ، وكما اعتبر جنبلاط رجوعه من أجل تفادي حرب أوشكت أن تندلع عشية 7 أيار ، فإنه اختار الموقف الصحيح في السياق الصحيح وفي اللحظة المناسبة. ففي لبنان كل شيء ممكن ومتوقع إلاّ الحرب الأهلية ، فإنها لا زالت تشكل خطّا أحمر إلاّ على المنتحرين؛ وعندها فقط يخرج من بين ركام تناقضات المشهد من يحسن فن وضع الحدود و"الدعس" على الفرامل في آخر لحظة تسبق الحادثة. [email protected]