من يرصد النزعة العدوانية للصحافة الجزائرية الموجَّهة من طرف الدولة ضد الشقيقة موريتانيا، يخال أن معركة الجزائر ضد الإرهاب أصبحت أشد وطأة ضد موريتانيا، مع أنها لا تفعل شيئا أكثر من دفاعها عن أراضيها وسلامة مواطنيها وزوارها، وربما كان ذنبها في ذلك أنها سيدة قرارها لا تنتظر من الجزائر أن ترسم لها الطريق. منذ افتضاح تورط عمر الصحراوي، الذي ينتمي إلى جبهة البوليساريو، في عملية اختطاف الرهائن الإسبان، زادت حدة الهجمات الدعائية ضد الدولة الموريتانية، من جهة، لأنها كانت قد اعتقلت عضوا في جبهة البوليساريو وأدانته المحاكم الموريتانية بالسجن، لضلوعه في أعمال إرهابية، ومن جهة ثانية، لأن الجزائر انزعجت بشدة لهذا التطور الذي يذهب في اتجاه تصنيف البوليساريو في تنظيم إرهابي، ما دامت العبرة بالممارسات الخارجة عن القانون التي تحكم على الأفعال، وليس الولاء لهذه الدولة أو تلك. لعل أكثر ما تخشاه الجزائر هو أن يتم الانتهاء إلى تفكيك الألغاز المحيطة بتحركات جبهة البوليساريو، في علاقتها المحتملة مع تنظيمات إرهابية، وبالتالي فإن المسؤولية في ذلك ستقع على عاتق الدولة الجزائرية، أولا لأنها سمحت باستخدام أراض واقعة تحت نفوذها، لقيام تنظيم عسكري خارج عن القانون، علما أن المعاهدة التأسيسية للاتحاد المغاربي نصت في ميثاقها التأسيسي في قمة مراكش على منع أي حركة معارضة من استخدام أراضي أي دولة من دول الاتحاد المغاربي الخمس لشن هجمات أو القيام بأعمال عدائية ضد أي دولة من أعضائه. ثانيا، لأن القوانين الدولية ذات الصلة بالسيادة تجعل أي دولة مسؤولة عما يقع داخل حدودها من أعمال منافية لاحترام سيادة ووحدة الدول المجاورة، بل إنها تحظر التدخل في الشؤون الداخلية للغير، تحت ذرائع أو مبررات. ثالثا، نتيجة هذه الخشية، تحاول الجزائر جذب بعض دول الساحل والصحراء إلى الدوران في فلكها، لكنها تعتمد نوعا من الازدواجية الفاضحة في هذا التوجه، فهي تقول، مرة، بضرورة تنسيق الجهود والتصدي للأعمال الإرهابية، لكنها، في الوقت نفسه، تسعى إلى تخفيف إفلات جبهة البوليساريو من هذا التورط، كما فعلت حين ضغطت على موريتانيا، بكل الوسائل للإفراج عن عمر الصحراوي. كيف، إذن، يمكن الجمع بين المتناقضات في قضية واحدة، إذا لم تكن نوايا السلطات الجزائرية غير سليمة؟! والدليل على ذلك أنها أوعزت إلى الصحافة الدائرة في فلكها بنسج وقائع خيالية، من قبيل أن نواكشوط تسلمت طائرات عسكرية في مقابل صفقة افتراضية للمساهمة في إطلاق سراح رهائن إسبان، مع أن الوقائع الثابتة على الأرض تؤكد أن اقتناء طائرات كان سابقا لحادث اختطاف الرهائن الإسبان. ينضاف إلى هذه الوقائع أن الجزائر تريد الإيهام بأنها ضد إبرام أي صفقات للإفراج عن رهائن في مقابل تقديم فديات مالية، والحال أنها لم تفعل ذلك حين تم الإفراج عن رهائن غربيين اختُطِفوا من عمق الصحراء الجزائرية، فهل الألمان أكثر أهمية من الموريتانيين؟ أم إن الجزائر تستمر في نظرتها الدونية إلى الدولة الموريتانية التي هي سيدة قراراتها؟ ولماذا تبيح الجزائر لنفسها أن تجري كل الاتصالات الممكنة مع العواصمالغربية، بما فيها الولاياتالمتحدةالأمريكية، لتسكين مواقع في شكل قواعد عسكرية داخل التراب الجزائري، بدعوى الحرب على الإرهاب، لكنها تعيب على موريتانيا القيام بما يمليه عليها واجب حماية سيادتها وصون سلامة مواطنيها وزوارها؟ إنه لأمر يدعو إلى الاستغراب أن تختار الجزائر العنوان الخطأ في معركة مشروعة، من حق أي دولة تكون فيها معرضة للمخاطر أن تحمي نفسها، ومصدر ذلك أنها تتصرف بعقلية «الدولة العظمى»، التي تحاول أن تملي شروطها ونظرتها على الآخرين، فهي تعطي لنفسها حق أن تنشر وجودها في شمال مالي، لكنها تريد أن تمنع عن موريتانيا استخدام حق المطاردة في متابعة فلول الإرهابيين الذين شنوا عليها المزيد من الهجمات وقتلوا المزيد من الأبرياء ونشروا الذعر والرعب. تعكس المسألة، بكل بساطة، التباين الحاصل بين تجربتين، ففي الوقت الذي استطاعت الشقيقة موريتانيا، رغم قلة إمكانياتها وضآلة مواردها، النهوض لاستقراء الظاهرة الإرهابية، بفعل إرادة أبنائها، نجد أن الجزائر عجزت عن حماية المواطنين الجزائريين داخل حدودها الطبيعية من مخاطر القتل والإرهاب، ومع ذلك فإنها تصر على إعطاء الآخرين «دروسا» كان يجب أن تكون هي أول من يستفيد منها!... في خلفيات العلاقة غير العادية بين موريتانيا والجزائر أن هذه الأخيرة أبانت عن تحيُّز سافر ضد نظام الرئيس الموريتاني، محمد ولد عبد العزيز، منذ يوم الإطاحة بنظام معاوية ولد سيدي أحمد الطايع. وقد فعلت المستحيل من أجل التشويش على المسار الديمقراطي الذي اختاره الموريتانيون، بل إنها استخدمت شخصيات جزائرية من بين العاملين في منظمة الاتحاد الإفريقي أو جهات أجنبية أخرى لحشر النظام الذي اختاره الموريتانيون في الزاوية، وحين لم تفلح في ذلك، عبر مناورات عدة، ها هي اليوم تلجأ إلى ملف الإرهاب لاستعماله ضد السلطة الموريتانية، مما يعني أن الأمر لا يعدو أن يكون استمرارا لسياسة عدائية مفضوحة. وإذا كان المنطق يفرض أن تتسم العلاقات بين موريتانيا والجزائر، على الأقل، ضمن تجربة بلدان الساحل والصحراء، بقدر من التفاهم والتنسيق، خصوصا في الحرب على الإرهاب، فإن إفراز تناقضات حول هذا الملف بالذات، يعكس الأهداف البعيدة للجزائر، والتي تقوم على مبدأ حيازة تزكية ودعم بلدان الساحل، لاستخدامها كورقة في سياستها الداخلية والخارجية. وحين رأت، بالعين المجردة، أن هذه المجموعة لا تسايرها في نظرتها الشوفينية المحدودة، أعطت «الضوء الأخضر» لصحافتها لشن حملات دعائية ضد بلد كل ذنبه أنه يحارب الإرهاب، بالفعل، وقد نجح في ذلك فعلا، ولو أن الطريق ما يزال طويلا...