جنون الغنى والثراء الفاحش بمراكش تحول إلى ما يشبه مضمون مثلنا الشعبي العامي: «لوكانت الصفيحة ترد العار لوكانت رداتو للحمار»، فالأموال التي تسري في عروق المدينة الحمراء كلها أموال لا تمحو معالم الفقر والبؤس التي لازالت تلتصق بوجه المدينة، وتحولت معالم الغنى التي تظهر على مراكش في مطاعمها وفنادقها وقصورها ولباس أغنيائها وسياراتهم ومجوهراتهم إلى ما يشبه العار الذي لا ينمحي أمام مشاهد وصور البؤس التي لا تخفيها أعين أطفال حفاة يعيشون في الليل تحت وقع الاعتداء الجنسي في محيط باب دكالة وفي النهار يتسكعون أمام مطاعم كًيليز طلبا وطمعا في بطاطس مقلية. في مراكش تفتخر وجوه بعينها، على قناة «لوكس تي في» العالمية المتخصصة في حياة الترف والمشاهير، بتوفرها فوق أرض المدينة الحمراء على قصور بهندسة آسيوية، بها مسابح ووديان اصطناعية تجري فيها أسماك ملونة، وهي نفسها الوجوه الثرية التي حطت رحال أموالها في مراكش في تناسٍ تام أنها تجاور مراكشيين بسطاء لازالوا يسكنون فوق «الصابا» في المدينة القديمة وفي الأحياء العشوائية والوديان الاصطناعية التي يتوفرون عليها ليست سوى وديان «الواد الحار» التي تمر أمام أبواب بيوتهم لعدم توفرهم على شبكات التطهير السائل. الأثرياء في مراكش يتناسون عمدا أن المدينة الحمراء لها روح صوفية ونزعة زهد ورثتها عن أجيالها المؤسسة، فشاعر الحمراء محمد بن إبراهيم الذي ظل يردد: «وكم مر يوم تبصرني به وجسمي بلا ثوب ورجلي بلا نعل»، هو نفسه الذي عاش حياته في بيته المتواضع برياض الزيتون بصحبة فأر ظل يردد على مسامعه: «ليس لي زيتٌ وزرعٌ.. وطعام في جفان ليس من شيء عليه.. يتعادى الأخوان»، ومع ذلك أوصله شعره إلى أن بارز الشعراء العرب في حضرة الملك عبد العزيز آل سعود وأعجب شعراء مصر لما زارهم والتقى بأمير الشعراء شوقي، لكن ابن إبراهيم ظل زاهدا في الحياة تماما كما يزهد فيها اليوم مسنون مراكشيون في طريقهم إلى الانقراض وهم يجتمعون بمحاذاة أسوار المدينة، ينعزلون، على طاولة خشبية يلعبون «الضاما» في انتظار أذان صلاة المغرب. لعبة «الضاما»، التي يلعبها بسطاء أهل مراكش وفقراؤها ب«بُوشونات» القنينات البلاستيكية، أوجد لها الأثرياء الجدد في المدينة الحمراء نظيرا أعلى شأنا وأكثر همة،... هكذا تحولت كازينوهات مراكش إلى صالات مفروشة بطاولات خضراء يبسط عليها الأغنياء أموالهم في ألعاب «البُوكير» و«البلاك جاك» و«الرُوليت»، والأميون منهم، أولئك الذين استفاقوا وأصبحوا أغنياء، تراهم يجرون فتيات في عمر الزهور يقذفن بالأموال في آلات الحظ الميكانيكية ويشربون أغلى المشروبات بأثمان خيالية، وحتى بعض المطاعم والحانات الكبرى بمراكش أصبحت هي الأخرى تضع رهن إشارة زبائنها آلات القمار بلا حاجة إلى تراخيص الكازينوهات القانونية. لا تمر نهاية أسبوع واحد في مراكش دون الإعلان عن مسابقة وطنية أو دولية في «البُوكير»، وحتى من لم يلعب في حياته غير «الرُونضة» أصبح هذه الأيام يتعلم أصول لعبة «المرفحين»، ترى بعضهم يقبض «السيغار» كما يقبض الراعي العصا، وترى أكثرهم يسكب أمواله بلا حاجة إلى الربح بل فقط لإظهار أن «الحبة موجودة». فعلا، رخص الشعير في مراكش، لكن المؤسف في حكاية غلاء الحمير، أعزكم الله، هو أن المدينة الحمراء تتوفر على دور أيتام وعجزة وصم وبكم لا تطؤها مطلقا أرجل أصحاب «البُوكير»، بها محتاجون ومعوزون تناساهم الزمن... الزمن الرديء الذي جعل «من شاط عليه الزعفران يصلقو مع البربوش».