جولة لبضعة أيام جنوب البلاد تجعلك تشعر بالفخر والنشوة، إذ تدرك أننا فقدنا الكثير، لكننا لم نضيع كل شيء.. مغاربة بسطاء يفترشون الحصير لكنهم يستقبلونك ببسمة كبيرة وحب صادق وألفة لا ثمن لها، ينظرون إلى عينيك وليس إلى يديك، يقتسمون معك كل ما يملكونه، الأرض والزاد القليل والدفء الكثير. هناك حيث إيقاع الحياة لازال متناغما وحيث لازالت الحشمة والاحترام والوقار، تصادف أناسا رائعين لازالوا متمسكين بقيم المغرب الحقيقية، نساء ورجال لم تثنيهم قسوة الجغرافيا ولا شح الزمن عن أن يظلوا شامخين بطيبتهم وكرمهم وتضامنهم وترحيبهم بكل غريب. أطفال صغار يقطعون مسافات طوالا تحت شمس ملتهبة للوصول إلى أقسام الدراسة، يرفعون أيديهم لإلقاء التحية بخجل وعناد، يتحدون ظروفهم الصعبة أملا في غد أفضل وهم يحلمون بمدرسة قريبة وصنبور ماء.. حينما تصادف أولئك العباد المنسيين الذين يقطنون قرى تبدو منعزلة وبعيدة جدا عن كل ما هو «حضاري» تعتقد أن سلوكهم سيكون جافا جفاف طقس دواويرهم، لكن تفاجئك روحهم وعفويتهم وصدق مشاعرهم بأنهم أرقى من سكان الحواضر بكثير. هناك لازال المغربي يفكر في أخيه، لازالت الروابط قوية بين أفراد الأسر، لازال الناس يلقون التحية وينتظرون الجواب، لازالوا يقتسمون الماء والتمر والطعام رغم الفقر والحاجة. ترى لم تشوه المدن أرواح الناس، لم تجعل منهم كائنات جائعة بلا قلب، لم تجعلهم أنانيين ومحتالين.. جوعى رغم الخيرات وعطشى رغم صنابير المياه، وتعبين منهكين رغم كل وسائل الراحة، وبدائيين رغم كل ما يوحي بالحضارة. كل ما فقدناه من «تامغربيت» في طرقات المدن لازال ينبض بين أزقة الدواوير بقرى الجنوب الأصيلة، لازال الناس يبدؤون طعامهم ب»باسم الله» رغم قلته وينهون ب»الحمد لله»، طلباتهم بسيطة وإن بدت أحيانا مستحيلة، مدرسة قريبة لأطفالهم ومستوصف لأهاليهم وفصل ممطر كي يكون المردود غزيرا. أتراهم سعداء؟ ونحن «المحظوظين» سكان المدن أنحن سعداء.. أأنتم سعداء؟ لست أدري.. هناك لازال الشاي الأخضر برائحة النعناع عنوان حب وضيافة وحسن استقبال، لازال التمر والحليب رمزان للإيثار، ولازال للزمن معنى وللطبيعة ذاك الحضور الساحر الذي لا تعوضه بنايات مهما علت.. هناك فقط بتلك القرى المختبئة خلف الجبال تجد ما يكفي من الوقت لتسائل نفسك عن أصولك وانتمائك وهويتك، هؤلاء إذن أجدادنا وهكذا كنا بأنفة النخلة الواقفة بكبرياء، ما الذي غير حالنا وأصبحنا بلا قيم نحسب وجودنا بالأرقام فقط ونسحق بأقدامنا كل ما يقف في وجه أطماعنا التي لا حدود لها.. من قبِل بأن نقايِض كل ما كناه بما أصبحناه، وهل من الضروري أن نفقد كل ما يُغني أنفسنا وأرواحنا ووجودنا كي ننتمي إلى الحاضرة ونكون حداثيين؟ تجولت بين مناطق عدة: تكونيت، تمكروت، أكدز، آيت ولال، بوزركان. وقد مررت بقصبة لا تبعد كثيرا عن زاكورة اسمها «دار الهيبة» في ملكية مستثمر أمريكي متزوج من مغربية. الغريب أن هذا الغريب لا يقبل استقبال المغاربة في هذه القصبة السياحية التي اقتناها من سكان الدوار المغاربة بدعوى أننا «موسخين».. «حاشاه»، وبالتالي فإنه لا يرحب إلا بالأجانب. وقد وضع أمام المدخل، بدون خجل، لافتة تشير إلى أن مشروع القصبة قد أنجز بدعم من جهة سوس ماسة درعة، وأنا على يقين بأن الجهة مستحيل أن تدعم مستثمرا بحقد مستعمر يمنع المغاربة من الاستفادة كسياح من إرثهم الحضاري والتاريخي بفكر عنصري.. هناك وسط الجبال وواحات النخيل، تنسى كل شيء وتتذكر نفسك، وتنتبه إلى عظمة الخالق وتتوه إذ تدرك أن حروبك اليومية تافهة جدا وخاسرة مسبقا.