لا يحتاج مشروع عبد الله العروي إلى كثير برهنة من أجل وصفه بالمشروع الفكري الحداثي العربي الأكثرَ اكتمالا، وهو المشروع الذي أسس للنقد التاريخي وأعاد قراءة التاريخ العربي والإنساني، فلسفيا ونقديا وسياسيا، ليعيد صياغة المفاهيم الأساسية، كالحرية والديمقراطية والعقل والإيديولوجيا، على ضوء قراءته للتاريخ. وكان العروي، دائما، يقول إن الحداثة -كموضوع- هي الكتاب الذي يجمع سائر فصول الفلسفة منذ القرن ال18، وهي الحلقة التي دار حولها الفكر النهضوي العربي، قبل وبعد انتكاسته، سياسيا... يطرح الدكتور العروي تصوراته النظرية لمستقبل النهضة العربية على مستويين عموميين: الأول هو نقد فكر التراث وتحقيق القطيعة المعرفية معه، والثاني هو استيعاب فكر الحداثة وتحقيقه في أرض الواقع. وهذه التصورات النظرية هي تصورات عمومية تحتاج إلى تنزيل على الواقع الفكري. لكنْ، ما هي الآليات الفكرية التي تُحقِّق القطيعة المعرفية مع التراث؟ وما هي الآليات الفكرية لتحقيق التحول الفكري في العمق إلى الحداثة؟.. هذه بعض الآليات التي طُرِحت، جديا، خلال النصف الأول من القرن العشرين ولم تجد مردودا إيجابيا. فهل يمكن ابتكار آليات جديدة أكثرَ فاعلية تستطيع أن تُحقِّق التواصل اللازم بين الواقع والمثال؟ لن أُسهب أكثر في شرح تحليلات أعمال العروي، وبالأخص تلك المتعلقة بالحداثة. وأذكر، شخصيا، أنني التقطت له عبارة في إحدى محاضراته التي كنتُ شغوفا بتتبعها، في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الرباط، والتي كان يشير من خلالها إلى أنه يجد نفسه دائما، عندما تراه يتحدث عن الحداثة، أكثر وضوحا وانفعالا!.. واستنادا إلى منهج التوليد الذاتي للنصوص التاريخية، والتي كثيرا ما نوه العروي باستعمالها في التحقيقات التاريخية لنصوص المفكرين ورجالات السياسة، وهو المنهج الذي يعني «ترك النصوص تتكلم عن نفسها»، فإنني أستعرض هنا -ربما- أوضح وأشمل وأهم ما قاله العروي حول الحداثة وعوائقها: «لست من الذين يقفون اليوم على قبر لينين وماو، لكنني أرى، اليوم، أن تجربة القرن العشرين تشير إلى أنه لا يمكن معارضة الحداثة إلا بتجاوزها ولا يمكن تجاوزها إلا باستيعابها. قلت هذه الكلمة قبل سنين وهاجمني من أجلها من هاجمني، فأنا أعيدها اليوم وأتأسف لضرورة التكرار... الحداثة موجةٌ، العوم ضدَّها مخاطرة، ماذا يبقى؟ إما الغوص، حتى تمر الموجة فوق رؤوسنا فنظل حثالة، وإما نعوم معها، بكل ما لدينا من قوة، فنكون مع الناجين في أي رتبة كان... تسألون: ما هي العوائق؟ استخلصوها أنتم من عرضي هذا، وهذا هو المنهج القويم. العائق الأول -كما تبيّن- فكريّ، هو المعارضة الغبية الجاهلة أو التأييد الماكر. القول إن الحداثة كانت مُروقا، تنطُّعاً، جهالة ندم عليها أصحابها فلزمت التوبة على القائمين عليها والقائلين بها والداعين إليها، هذا عائق لا سبيل إلى استئصاله، فأمره موكول إلى الحداثة ذاتها، إما تقهره وإما يُتلفها، وإذا كان التلف، فكلنا خاسرون... أما العوائق الأخرى فيمكن أن نساهم في معالجتها ولو بتشخيصها. هي تلك التي تمُتُّ، بسبب ما، إلى إحدى مكونات الحداثة. كل ما يعوق تحرير الفرد من مختلف التبعيات: السياسية، الاجتماعية، العائلية، العشائرية والفكرية يعوق التحديث. كل ما يعوق الحريات المدنية والسياسية، يعوق التحديث. كل ما يعوق الديمقراطية في سيادة الشعب (شعب الأحياء لا شعب الأموات) يعوق التحديث. كل ما يعوق العقلانية العلمية (منطق التجربة والاستقراء)، باللجوء إلى الغيبيات في حياتنا اليومية، في كل حركاتنا وسكناتنا، في مأكلنا وملبسنا ودوائنا، في ما نقرأ ونشاهد، يعوق التحديث». مفهوم العقل :359-360 وفي حوار أجراه مع مجلة «آفاق» يقول العروي: «السؤال المخيف هو: أَوَلَمْ يفُت الأوان على كل نوع من أنواع الترشيد والتوضيح، بعد أن دخلنا عهداً من الفوضى الفكرية لا نرى له نهاية؟ نقرأ اليوم كتباً تنقد فكرة الحداثة ونعتمد عليها لنقول إن إشكالية الحداثة أصبحت كلُّها متجاوَزة. هل هذا صحيح؟ هل يحق لنا أن نفعل كما لو كنا قد تجاوزنا الحداثة، مثل الأوربيين الذين عاشوا في أحضانها منذ ما يزيد على ثلاثة قرون، تزيد أو تنقص، حسب البلدان؟!»... والعائق الثالث للتحديث، عند العروي، هو الظن أن التطبيق الشكلي للأنظمة الحداثية يكفي للتحول إلى الحداثة. ويرى أن هذا خطأ، لأنه يجب التحول إلى الحداثة في العمق وعلى مستوى تفكير المجتمع كله، وكذلك على مستوى الدولة. وفي حوار صحيفة «العالمية»، يقول: «ندعو اليوم إلى الحداثة من بوابات متعددة، بوابة الدولة وبوابة المجتمع المدني وبوابة الأحزاب السياسية، إلي غير ذلك. هناك أصوات تتعالي من أجل المطالبة بالحداثة، لكن السؤال الذي يحاصرنا هو: هل فعلا لدينا شروط إنجاز هذه الحداثة؟ الواقع، أن هناك عملية التعريب، نطالب بكل شيء علي هامش الحداثة، لكن عمق الحداثة غائب. ماذا يقول بعض المثقفين الآن؟ يتكلمون عما بعد الحداثة، كما لو أننا كنا قد حققنا الحداثة، والآن نعيش ما فوق الحداثة.. كما لو كانت الحداثة موضة!.. فلمّا تتكلم عن «الميني جيبْ» مثلا، تقول: الآن مر زمن «الميني جيب».. وعندما تتحدث عن الحداثة، تقول الحداثة.. لا، الآن نحن ما بعد الحداثة! أين ما بعد الحداثة، في أي بلد في أي سماء؟!».. ماذا عن المغرب والبلدان المغاربية، كمَواطن تتميز بمقومات حضارية مشترَكة وبإرهاصات لبزوغ صيرورة حداثية مختلفة عن المشرق العربي؟ يجيب العروي: «... وقلت، بكل صراحة، نحن مغاربة والمغرب بعيد عن الساحة، وهذا ليس سرا، هذا قلته وكررته فلا يجب أن يطلب منا نحن المغاربة ونحن نعيش 3000 أو 4000 كلم بعيدا عن المشرق العربي، أن نشارك المشارقة في مشاكلهم، عاطفيا نشاركهم ولكن نحن بعيدون. -إذا شاركنا، من نشارك: إفريقيا، مثلا؟ أوربا؟.. أطلب أن نفكر في نقطة أساسية ويفكر فيها المفكرون المغاربة، فالمغرب جزيرة لا ترى، ولكن انظري إلى خريطة المغرب، وسترين أن المغرب جزيرة ويجب أن نستخرج من ذلك كل النتائج، قدَرنا هو أننا جزيرة ويجب أن نتصرف كسكان جزيرة، جزيرة مطوقة».. أما أركون فيعلق على هذا المعطى التاريخي والسياسي قائلا: «قلت إنه ينبغي على المغاربة أن يفكروا في الظاهرة الدينية لا أن يفكروا في الإسلام مباشرة، لأن الإسلام ليس إلا أحدَ تجلياتها. وإذا ما عرفوا كيف يفكرون في الظاهرة الدينية، بعيون جديدة، فإن الفكر المغاربي سوف يساهم -ثقافيا وتاريخيا- في البلورة الجارية حاليا للحداثة». قضايا في نقد العقل الديني