عوض أن يذهب «الناشطون» الحقوقيون الإسبان إلى تيندوف لمؤازرة مصطفى ولد سلمى الذي اختطفته البوليساريو بسبب تعبيره عن رأيه المساند للحكم الذاتي في الصحراء، قرر هؤلاء «الناشطون» القدوم من الجزائر، حيث شاركوا برفقة سبعين انفصاليا في ندوة دولية بالجزائر، إلى العيون لإعادة السيناريو نفسه الذي مثلوه قبل شهر عندما خرجوا إلى الشوارع حاملين أعلام البوليساريو، فصادف ذلك أن التقوا بمشجعين خرجوا للتو من الملعب استفزهم منظر الإسبان وهم يلوحون برايات البوليساريو فلم يتمالكوا أنفسهم و«بوقلو» عيون بعضهم. ولسوء حظهم، فقد قال لهم رئيس حكومتهم «تكبرو وتنساوها»، وطالبهم باحترام قوانين البلد المضيف، وإلا سيعرضون أنفسهم للمتابعة القضائية. بمعنى آخر، فالرئيس الإسباني يقول لمواطنيه الذين يأتون إلى المغرب لتحريض الانفصاليين على التظاهر بدون ترخيص «ذنوبكم على روسكم». ويبدو أن أصدقاءنا «الناشطين» الحقوقيين الإسبان الأحد عشر جاؤوا هذه المرة إلى العيون لكي يتظاهروا ويحملوا أعلام البوليساريو في الشوارع لهدف واضح جدا، وهو التعرض للضرب والاعتقال ثم المحاكمة. هكذا، تجد الآلة الإعلامية الإسبانية والجزائرية، التي ضربتها هذه الأيام «اللقوة» في قضية مصطفى ولد سلمى، صورا وأخبارا وقضايا تلوكها ضد المغرب الذي تمارس أجهزته العنف ضد من يخرجون إلى الشارع للتعبير عن رأيهم وضد الناشطين الحقوقيين الأجانب المسالمين، وبقية الأسطوانة المشروخة. وهكذا تختفي قضية اختطاف واحتجاز وتعذيب مصطفى ولد سلمى بسبب تعبيره عن رأيه وتتوارى إلى النسيان، لكي تحل محلها في الإعلام الإسباني والجزائري والدولي قضية ضرب واعتقال ومحاكمة «الناشطين» الحقوقيين الإسبان بسبب دعمهم للانفصاليين في معركة التعبير عن رأيهم في العيون. لذلك، فإيفاد هذه الكتيبة الإسبانية إلى العيون في هذه الظروف بالذات، حيث وزير الخارجية أنخيل موراتينوس نفسه يوجد في وضع لا يحسد عليه إلى الحد الذي رفض معه إعطاء أي تصريح صحافي في قضية اختطاف مصطفى ولد سلمى، يهدف إلى إذابة جليد الحرج السميك الذي كبر داخل إسبانيا بسبب الصمت الرسمي والإعلامي والحقوقي حول اختطاف مواطن صحراوي واحتجازه وتعذيبه لمجرد تعبيره عن رأيه. تريد الآلة الإعلامية والحقوقية الإسبانية أن تحول الأنظار المستنكرة، المركزة عليها بسبب صمتها المتواطئ مع البوليساريو وجنرالات الجزائر ضد الحق في إبداء الرأي، نحو المغرب. ولإنجاح هذه الخطة، ليس هناك أحسن من اللعب على ورقة حقوق الإنسان في الصحراء وإرسال الكتيبة إياها لإشعال فتيل الفتنة حتى يصبح الضحايا الرئيسيون في نشرات الأخبار ووسائل الإعلام هم «الناشطون» الإسبان وليس مصطفى ولد سلمى. إن المعركة في ملف الصحراء كانت دائما إعلامية بالأساس. ومن يستطيع استغلال وسائل الإعلام بذكاء للدفاع عن موقفه سينجح، بغض النظر عن سلامة موقفه. فكم من قضية عادلة تولى الدفاع عنها محام فاشل فخسرها وأعطى الفرصة لمغتصبي الحقوق لكي يقدموا أنفسهم كحماة لها. وعندما نسمع عبد العزيز بلخادم، الأمين العام لجبهة التحرير الجزائرية و«الممثل» الشخصي للرئيس بوتفليقة، يقول إن الجزائر ليست لها أطماع في الصحراء، وإن كل ما تطالب به الجزائر هو تنظيم الاستفتاء في الصحراء حتى يقرر «الشعب الصحراوي» في مصيره، نفهم أن الرجل لا يفعل غير تصريف الحرج الكبير الذي شعر به جنرالات الجزائر بعد تورطهم في اختطاف مصطفى ولد سلمى. «مول الفز يقفز». لقد فهم بلخادم وبوتفليقة وجنرالاتهما أن بيانات المنظمات الدولية موجهة إليهم. اليوم، عندما أصبحت هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الأمريكية، تطالب بإطلاق سراح المختطف، وأصدرت المنظمات الحقوقية الدولية بيانات تندد بالاختطاف، أصبح جنرالات الجزائر يحاولون الاختباء في بزاتهم العسكرية شاهرين الراية البيضاء لإيهام الرأي العام الدولي بأن كل ما يطالبون به هو تنظيم استفتاء في الصحراء لكي يقرر «الشعب الصحراوي» في مصيره. وبما أن جنرالات الجزائر لديهم كل هذه الغيرة على حرية الشعوب ومصائرها، فلماذا يا ترى كلما طالب أبناء منطقة «القبايل» بتقرير مصيرهم أرسل إليه بوتفليقة شاحنات العسكر المدجج بكل أنواع الأسلحة لتفتيت عظامهم في الشوارع؟ كيف يريد السي بلخادم أن يقنع العالم بأن رئيسه وجنرالاته لا أطماع لهم في المغرب، وهم الذين طرحوا مشروع تقسيم الصحراء بين المغرب والجزائر لفض النزاع. اليوم فقط، يكتشف بلخادم أن الجزائر لا أطماع لها في المغرب. لقد كان على بلخادم أن يكون واضحا مع نفسه ويقول إن الجزائر هي الطرف الآخر الذي يجلس تحت طاولة المفاوضات بين المغرب والبوليساريو، وإنه قد حان الوقت لكي تخرج الجزائر من تحت الطاولة وتجلس حولها لكي تفاوض بوجه مكشوف. وإذا كان بوتفليقة لا أطماع له في الصحراء، فلماذا يبدد كل هذه الأموال في تسليح وتكوين وتأطير البوليساريو منذ عشرات السنين؟ لماذا ينشغل بتقرير مصير منطقة بعيدة عنه علما بأن منطقة القبايل التي توجد تحت نفوذه أجدر بدراسة مطلب تقرير مصيرها؟ إن الشعب الذي يجب أن تُعطاه حرية اختيار تقرير مصيره ليس هو «الشعب الصحراوي» أو الشعب القبايلي»، وإنما هو الشعب الجزائري الشقيق. إن هذا الشعب الأبي، الذي قدم مليون شهيد في جهاده ضد الاستعمار، يستحق قيادة أشرف وأنظف وأنزه من هذه التي تمسك بخناقه وتدوس كرامته ونخوته. المغاربة أيضا، يا سيد بلخادم، لديهم مطلب لديكم مثلما هو مطلبكم الذي ترغبون من ورائه في تنظيم استفتاء ل«الشعب الصحراوي»، وهو أننا كمغاربة نريد منكم أن تستفتوا الشعب الجزائري الشقيق في تقرير مصيره، لكي تعرفوا هل يريد أن يظل تحت الأحذية العسكرية الثقيلة للجنرالات، أم تراه يريد أن ينتخب رئيسا حقيقيا عليه، رأسه خال من العقد، يمد يده إلى المغرب وبقية الجيران لتحقيق حلم أبناء المنطقة في العيش والتنقل بحرية داخل بلدان المغرب العربي الشقيق. إن حق الشعب الجزائري في تقرير مصيره والتحكم في ثرواته الغازية، التي يصرفها الجنرالات على صفقات التسلح ويجنون من ورائها العمولات التي تسمن في حساباتهم البنكية بسويسرا، حق مشروع يجب أن يسانده كل أحرار العالم. فليس مقبولا أن تكون الجزائر أول مصدر للغاز في العالم، ومع ذلك يستمر شبابها في ركوب قوارب الموت لتسول الخبز في مطابخ الجيران. ليس مقبولا أن تصل عائدات مبيعات النفط والغاز الجزائري إلى 44 مليار دولار السنة الماضية، ومع ذلك تعيش ملايين العائلات الجزائرية تحت خط الفقر، إلى الحد الذي أصبحت معه الجزائر في مصاف الدول التي تتفشى فيها ظاهرة الانتحار بسبب الضغط والمشاكل الاجتماعية. إن الحل بالنسبة إلى إخواننا في الجزائر ليس هو أن يرحلوا ويهاجروا ويفروا عبر القوارب تاركين ثروات بلادهم للجنرالات وأبنائهم، وإنما الحل هو أن تذهب العصابة التي تسرق أرزاقهم وترهن مستقبلهم ومستقبل أبناء المنطقة المغاربية برمتها. أول دولة في العالم مصدرة للغاز تجاور أول دولة في العالم مصدرة للفوسفاط. مادتان لا يستطيع العالم أن يعيش بدونهما دقيقة واحدة. تخيلوا لو فتحت الحدود بين الدولتين وتوطدت المبادلات التجارية بين شركات البلدين، وأصبح المغرب والجزائر امتدادين اقتصاديين وجغرافيين واجتماعيين لبعضهما البعض، كيف سيكون المستقبل.. إن مستقبلا كهذا لا يصنعه المعقدون والمرضى بعقد التاريخ الذي لسنا، كجيل، مسؤولين عن هفواته وكوارثه. نحن أبناء اليوم، في المغرب كما في الجزائر، حلمنا هو أن نضع أيدينا في أيدي بعضنا البعض حتى نجعل مواردنا الطاقية وإمكانياتنا الطبيعية والبشرية في خدمة مستقبل بلدينا. إن من يفكر في مصلحة الأجيال القادمة، عليه أن يفهم أن مستقبل المغرب والجزائر يمر حتما عبر طمر خلافاتهما التاريخية وعقدهما المشتركة في حفرة عميقة ونسيانها إلى الأبد. وللأسف الشديد، فهذا المشروع يظل حلما بعيد المنال مع استمرار وجود أناس في قصر المرادية يحترفون الكوابيس. ولعل ما يبعث على الأمل هو أن هناك اليوم في الجزائر بوادر إيجابية تبشر بوجود رؤية أخرى لدى الطبقة السياسية والاقتصادية للعلاقات المستقبلية مع المغرب خارج الصورة السلبية التي ترسمها صحافة العسكر. لعشرات السنين وحكام الجزائر يضربون سورا فولاذيا على الشعب الجزائري لكي لا يأتي أبناؤه إلى المغرب، وظلوا يرسمون للشعب الجزائري صورة مخيفة عن المغرب لترسيخ كراهيته في قلوبهم. لكن هذا المخطط باء بالفشل، لأن ما يجمع الشعب الجزائري بالشعب المغربي أكثر من مجرد الجوار والجغرافيا والتاريخ.. ما يجمع بيننا هو الأخوة في الدين. وهذا ما لن يستطيع جنرالات العالم بأسره تفتيته، حتى ولو زرعوا جميع أشواك الدنيا في خاصرة المغرب، وليس فقط شوكة البوليساريو التي تحولت، بسبب قضية ولد سلمى إلى شوكة في خاصرة بوتفليقة. ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.