عرفت كثير من الفرق الإسلامية هذا الحديث وتداولته كتبها، من إباضية وزيدية وإمامية.. وسأقتصر هنا على دراسة الخبر من وجهة نظر الشيعة الإثني عشرية. الخبر في مصادر الإمامية يبدو أن الإمامية الأوائل لم يعرفوا حديث الافتراق عن طريق رواتهم، بل كانوا يحدثون به عن طريق أهل السنة.. ثم بعد ذلك ظهر في كتبهم المتأخرة، ك»بحار الأنوار». ويعترف الإمامية بصحة الحديث، وله عندهم ثلاث روايات رئيسة: 1 - الرواية المشهورة في افتراق أهل الكتاب إلى إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وافتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة. وهي رواية الخصال عن عليّ. 2 - رواية أخرى، فيها زيادة أن الفرقة الناجية هي علي (ض) وشيعته. 3 - رواية فيها أن ستين فرقة من المخالفين هالكة، واثنتا عشرة فرقة من الشيعة هالكة أيضا، وفرقة واحدة شيعية تنجو، وهي الإمامية. المقصود بالأمة في الحديث للإمامية رأيان في قول النبي (ص): ستفترق أمتي: 1 - قال الداماد: الأمة هي الشيعة، وجميع الفرق التي ذكر الحديث افتراقها هي فرق الشيعة.. ثم من هذه الفرق الشيعية الثلاث والسبعين، تنجو فرقة واحدة، هي الإمامية. فهنا اعتبر الداماد أن الحديث ورد في الشيعة لأنها أمة النبي (ص)، أما الفرق الأخرى -من سنة وإباضية ومعتزلة..- فهي عنده خارج الإسلام، فهي من أمة الدعوة لا الإجابة. وهذا في الحقيقة لم يكن قولا سبق إليه الداماد، فالشهرستاني -وهو أقدم منه- يحكي هذه المقالة عن بعض الإمامية، وذلك في سياق كلامه عن الشيعة وأنهم أكثر الفرق انقساما. وقريب من هذا الرأي ما أورده المجلسي في موسوعته «بحار الأنوار» من روايات، في بعضها: «من الثلاث والسبعين فرقة: ثلاث عشرة فرقة تنتحل ولايتنا ومودتنا، اثنتا عشرة فرقة منها في النار، وفرقة في الجنة، وستون فرقة من سائر الناس في النار»، أي أن ثلاث عشرة فرقة تزعم التشيع لعلي (ض)، كلها في النار أيضا إلا واحدة. 2 - الرأي الثاني يعتبر أن الفرقة الناجية هي شيعة علي، وسائر الفرق هالكة.. لكنها من أمة الإجابة، أي أنه حكم بإسلامها. يقول السبحاني، وهو إمامي معاصر: «المراد من أُمّتي هي الفرق الإسلامية المؤمنة برسالة النبي الأعظم، وكتاب الله سبحانه». ولا شك عند الإمامية أن «الفرقة الناجية عند الله هي الشيعة الإمامية الاثنا عشرية». وقد رأيت الشيخ السبحاني لم يتوقف عند روايات: ما أنا عليه وأهل بيتي. أو: علي وشيعته.. فكأنه لا يثق بها، بل استدل على أن الاثني عشرية هم الناجون بأخبار أخرى، وهي: حديث الثقلين، وحديث سفينة نوح، وحديث تشبيه آل البيت بالنجوم. ثم قال: «هذه الأحاديث تلقي الضوء على حديث الافتراق، وتحدد الفرقة الناجية وتعيّنها». تأويل الإمامية لروايات أهل السنة - رواية الجماعة: أورد هذه الرواية ابن بابويه في كتابه «الخصال»، وردّها السبحاني، فقال: رواية «الجماعة.. تارة جاءت رمزا للنجاة وأخرى للهلاك، فلا يمكن الاعتماد عليها..». أما الصدوق فقبل الرواية، لكنه فسرها بقوله: «الجماعة أهل الحق، وإن قلوا. وقد روي عن النبي (ص) أنه قال: المؤمن وحده حجة، والمؤمن وحده جماعة». - رواية ما أنا عليه وأصحابي: وحاصل ما ذكروه هنا أمران: أ- رد الرواية، يقول السبحاني: «كون هذا آية النجاة لا يخلو عن خفاء. (لوجوه): أوّلا: إنّ هذه الزيادة غير موجودة في بعض نصوص الرواية.. وثانيا: إنّ المعيار الوحيد للهلاك والنجاة هو شخص النبي (ص)، وأمّا أصحابه فلا يمكن أن يكونوا معيارا للهداية والنجاة إلا بقدر اهتدائهم واقتدائهم برسول الله، وإلا فلو تخلّفوا عنه قليلا أو كثيرا فلا يكون الاقتداء بهم موجبا للنجاة..». ب- قبول الرواية وصرفها عن ظاهرها: قال القطيفي: «إن عليا عليه السلام سيد الآل والأصحاب، فهو أول صحابي، وما هو عليه هو الذي عليه الصحابة المشار إليهم في الحديث بلا شبهة. فالمتبع له متبع لما عليه النبي عليه السلام وأصحابه، وهو عليه السلام ممن ثبت إيمانه وأنه على الحق، ما تغير عنه، ولا زلت قدمه، وذلك باتفاق المسلمين. بخلاف غيره.». من فقه الحديث في المذهب 1 - يتعلق الخلاف المشار إليه في الحديث بالعقائد: يقول السبحاني: «إنّ الفرق المذمومة في الإسلام هي أصحاب الأهواء الضالة الذين خالفوا الفرقة الناجية، في مواضع تعد من صميم الدين كالتوحيد بأقسامه والعدل والقضاء والقدر.. ورؤية الله سبحانه وإدراك البشر له تعالى، والإمامة والخلافة، ونظائرها». 2 - تفسير العدد: يرى السبحاني أنه لا يصح اعتبار العدد في الخبر كناية عن الكثرة، فعدد إحدى وسبعين مقصود فعلا. واستحسن القطيفي قول الدواني: قد يقال: لعلهم في وقت من الأوقات بلغوا هذا العدد، وإن زادوا أو نقصوا في أكثر الأوقات. 3 - زيادة النار: قد رد القطيفي هذا الإشكال بطريقين: أ- نفي الإشكال رأسا: فإن بعض علماء الإمامية ذهبوا إلى أن غير الطائفة المحقة كفار، وأنهم مخلدون في النار. وأورد عليه أنه ما من فرقة إلا وبعضها عصاة، والقول بأن معصية الفرقة الناجية مغفورة مطلقا: بعيد جدا. ب- تفسير الزيادة: لكن الشيخ رجح أن المعنى أن الفرقة الناجية لا تمسها النار أصلا، لا قليلا ولا كثيرا. وغيرها يدخل النار، وهنا الاحتمالات ثلاثة: إما أن يدخل جميع المخالفين النار ويخلدوا فيها، وإما أن يمكثوا بها ولا يخلدون، وإما أن بعضهم يخلد وبعضهم يمكث ثم يخرج.. قال: وهو ظاهر الخبر من غير تكلف. إن الفرقة الناجية عند الشيخ، وهي الإمامية، لا تتعرض للنار مطلقا. وقد احتج لذلك بخبر من كتاب التمحيص فيه أن عليا قال: ما من شيعتنا أحد يقاذف أمرا نهيناه عنه فيموت، حتى يبتلى بلية يمحص بها ذنوبه، إما في ماله أو ولده، وإما في نفسه، حتى يلقى الله وما له من ذنب.. ذلك أن الاعتراف بالولاية هو أهم شيء في المذهب الإمامي، فمن أتى بها نجا وغفر الله له ولم يعرضه على النار.. ومن لم يأت بها لا حيلة له في الفرار من العذاب. لذلك ختم الشيخ القطيفي كتابه عن الفرقة الناجية ب»الأخبار التي وردت بنجاة الشيعة على الخصوص».. مما جاء فيها: في حديث قدسي: يا محمد إني حظرت الفردوس على جميع النبيين حتى تدخلها أنت وعلي وشيعتكما إلا من اقترف منهم كبيرة، فإني أبلوه في ماله أو بخوف من سلطان، حتى تلقاه الملائكة بالروح والريحان، وأنا عليه غير غضبان، فيكون ذلك حلا لما كان منه. وقال جعفر الصادق لأحد الشيعة: الناس كلهم مماليك النار غيرك وغير أصحابك، فإن الله فكّ رقابهم من النار بولايتنا أهل البيت. وقال رسول الله عن جبريل لعليّ: إن الحق يقرؤك السلام، ويقول: إني قد غفرت لشيعة علي عليه السلام ومحبيه ذنوبهم. ولا إشكال هنا أن يكون الناجون قلة: أتباع فرقة واحدة من فرق الشيعة، كانت في فترات كثيرة من أقل الشيعة عددا، حيث كان الأكثر كيسانية وزيدية وإسماعيلية.. بله أن نتكلم عن الفرق الأخرى، من أهل السنة والمعتزلة والإباضية والمرجئة.. ونحوهم، وهم معظم الأمة والسواد الأكبر.. لا إشكال في هذا عند كثير من الإمامية، فها هو الشيخ المفيد يعقد فصلا في «ما جاء في أنه عليه السلام وشيعته هم الفائزون». ذلك أن الحديث -كما يرى القطيفي- «دلّ على أن الناجي قليل، بل نادر، بالنسبة إلى الكثير من الهالكين وأهل الملل والنحل». وهذا يؤكد النتيجة التي وصلت إليها في مقال سابق، وهي أن على الإمامية أن تجتهد أكثر في تجاوز مسألة تكفير مخالفيها، وتعترف بإسلامهم اعترافا واضحا، وتنشر ذلك وسط جمهورها من الشعب. يتبع...