يتناول ألان غريش، المحلل الاستراتيجي في «لوموند ديبلوماتيك»، مقولة «صدام الحضارات» كما تحدث عنها، أولا، برنار لويس ثم صامويل هانتينغتون في وقت لاحق. وكعادته، لا يخرج غريش عن خط التوازن الفكري الذي عُرف به وعرف به منشوره الشهري من حيث وقوفه مع الأطروحات العادلة بعيدا عن أي تحيز للفكر الإمبريالي والمنظرين له. في هذا السياق، يفكك غريش أطروحة «الإسلام: العدو الجديد للغرب» بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة. ويعود في المقال الثاني إلى مقاربة أصل عبارة «صدام الحضارات» وكيفية بروزها في الفكر الغربي. إلا أنه يسعى، موازاة مع ذلك، إلى نقدها والفكر المبرر لها باعتبارها لا تنبني على مسوغات فكرية موضوعية، بل هي مجرد «تنبؤات» وجدت لها المجال خصبا لتفرض نفسها على ساحة التنظير العالمي. «يتّمتْ» نهاية الاتحاد السوفياتي ليس فقط العسكر ومصالح الاستخبارات الأمريكية (والغربية بشكل عام) -بعد أن حُرمت من عدو كان يبرر وجودها وميزانيتَها- بل أيضا جميع مراكز البحث الاستراتيجية التي سبق أن ضخّمت، بشكل خطير، التفوق الاستراتيجي لموسكو، إلى حد أنها تنبأت بغزو الاتحاد السوفياتي لأوربا الغربية... فبِم يمكن استبدال «إمبراطورية الشر»، بعد أفول الاتحاد السوفياتي؟ في بداية تسعينيات القرن العشرين، لم تلقَ نظرية «نهاية التاريخ»، التي أطلقها الجامعي الأمريكي فرنسيس يوكوهاما (الانتصار النهائي لليبرالية الغربية وانتشارها عبر العالم كله) إلا القليل من النجاح. كان فصيل من اليمين المحافظ، ذلك الذي عارض انفراج العلاقات مع الاتحاد السوفياتي وكلَّ تفاهم مع ميخائيل غورباتشوف، يسعى، خلافا لذلك، إلى إيجاد «عدو استراتيجي جديد» وأعلن أن الولاياتالمتحدة، حتى في غياب غريم لها، مهدَّدة من قِبَل قوى غامضة، أكثر خطورة من الشيوعية. يتعلق الأمر بالإرهاب والدول المارقة وأسلحة الدمار الشامل. موازاة مع ذلك، ظهر العديد من المفكرين والصحافيين الذين قالوا ببروز خصم جديد يتمثل في الإسلام، باعتباره يملك «إيديولوجيا قوية» وقاعدة بشرية تفوق المليار مسلم. في سنة 3991، جعل الأمريكي صامويل هنتينغتون من مقولة «صدام الحضارات» مقولة شعبية. «أطروحتي، يكتب الأستاذ الأمريكي، أنه في العالم الجديد، لن يكون أصل الخلافات، بالدرجة الأولى، الإيديولوجيا أو الاقتصاد. ستكون الأسباب الكبرى لانقسامات البشرية وأهمُّ مصادر الخلافات ثقافيةً. ستستمر الدول -الأمم في لعب الدور الأول في القضايا الدولية، لكن أهم الخلافات السياسية العالمية ستجمع بين أمم ومجموعات تنتمي إلى حضارات مختلفة. سيهيمن صدام الحضارات على السياسة العالمية»... لكن، إلى ذلك الحين، كنا ما نزال في مجال المضاربة الكلامية، إذ لا واحدة من هذه النظريات حازت على الإجماع بين النُّخَب. وجاءت أحداث 11 شتنبر لتُرسِّخ فكرة أن الغرب انخرط في حرب عالمية، تتلو الحرب الباردة والحرب العالمية الثانية. ولما تمكّن الرعب من الرأي العام الأمريكي، على إثر صدمة الهجمات ضد مركز التجارة العالمي و«البنتاغون»، انضم إلى «الحرب ضد الإرهاب»، التي تجلى فيها «من هو معنا ومن هو ضدنا»!... من هو هذا العدو الجديد الذي يحل محل الشيوعية والنازية؟ هل هو الإرهاب؟ الإرهاب ليس إيديولوجيا، بل هو مجرد طريقة عمل. فمن الصعب، مثلا، إدراك ما يجمع بين الاستقلاليين الكورسيكيين، واستقلاليي الجيش الجمهوري الإيرلندي (منظمة إيرا) وطائفة «أوم». هل هو القاعدة؟ الصراع ضد هذه المنظمة الخطيرة تختص به المصالح الأمنية، وليس التعبئة الحربية. هل العدو هو الدول المارقة؟ لكن إذا كان من المُبالَغ فيه وضع كوريا الشمالية وإيران في نفس «محور الشر»، فإنه من الصعب وضع التهديدات التي تُمثِّلها هذه الدول، إقليميا، على نفس مستوى خطورة الاتحاد السوفياتي، سابقا. إن ما يرتسم كل يوم، أكثر فأكثر، من خلال الأهداف المعينة ومن خلال الحملات الإيديولوجية، هو صدام بين حضارتين، بين الإسلام والغرب. باستثناء كوريا الشمالية وكوبا، فإن البلدان المستهدَفة من قِبَل الولاياتالمتحدة –العراق، إيران، سوريا والسودان- كلها «إسلامية». كما أن الدعم الأمريكي غير المشروط لحكومة شارون يؤكد هذا التحيز. «الحضارة» في حرب ضد «البربرية»، يقول الرئيس بوش، فيما يرد أسامة بن لادن على ذلك بالقول إن «العالم منقسم إلى قسمين: أحدهما يوجد تحت راية الصليب، كما قال زعيم الكفار بوش، والآخر تحت راية الإسلام». إذا صحّت هذه النظرية، فلا خيار آخر ممكنا، طالما «هم» يكرهوننا، ليس على ما نفعل، بل لأنهم يرفضون مُثُلنا في الحرية والديمقراطية. وعليه، سيكون من غير المجدي منح الأولوية لحل هذه المشكلة أو تلك التي يعاني منها العالم الإسلامي. من جهة أخرى، يعني تبنّي مثل هذا التصور أن هناك استراتيجية حرب، أي إدماج كل مواجهة في نوع من صدام الحضارات، في خلاف أبديّ، دون حل ممكن. ومن الأمثلة على ذلك: كفاح الفلسطينيين، عملية إرهابية في جزيرة جافا، المقاومة في العراق.. حادث مُعادٍ للسامية في ثانوية في باريس.. مظاهرة في ضاحية مدينة كبيرة... كل هذه الأمور يُنظَر إليها كعناصرَ لهجوم عامّ من «الإسلاموية». إننا منخرطون على كل الجبهات -بما في ذلك الجبهة الداخلية- في حرب عالمية. عُيِّن الجنرال وليام ج. بويكين، أحد قدماء قوات دلتا (وحدة التدخل ضد الإرهاب في الجيش الأمريكي)، في يونيو 3002، نائبا مساعدا لوزير الدفاع مكلَّفا بالاستخبارات في الولاياتالمتحدة. صرح هذا المسيحي الإنجيلي في ولاية أوريغون بأن المتشددين الإسلاميين يكرهون الولاياتالمتحدة «لأننا أمة مسيحية، لأن أسسَنا وجذورنا يهودية- مسيحية، والعدو هو شخص يسمى الشيطان»... وفي مناسبة أخرى، قال: «نحن، جيش الله، في بيت الله، في مملكة الله، تربّينا لنقوم بمهمة مثل هذه». كما صرح بخصوص الحرب في الصومال ضد زعماء الحرب المسلمين: «كنت أعرف أن ربي أكبر من ربهم، كنت أعرف أن ربي رب حقيقي وربهم مجرد صنم»!... بعد هذه التصريحات، قدّم الجنرال بعض الاعتذارات، إلا أنه ظل يحتفظ بموقعه واستطاع أن يطبّق «مواهبه» على أرض الواقع، من خلال «تصدير» النظام السجني الذي أقيم في غوانتنامو إلى العراق، وهو ما ترتبت عنه تلك النتائج التي نعرفها على مستوى تعذيب سجناء «أبو غريب»... وإذا كان وزير الدفاع، دونالد رامسفيلد دافع عنه، فإن كوندوليزا رايس، المستشارة القومية في الأمن، حرصت على توضيح أن «الأمر لا يتعلق بحرب بين الديانات». إلا أنه يصعب تصديق مثل هذا القول عندما نقرأ شهادات السجناء في العراق، الذين أُرغموا على سب ديانتهم وأكل لحم الخنزير. وفي وسائل الإعلام، تبدو الإسلاموفوبيا واضحة، وإن كانت أحيانا موضوعَ انتقاد. آن كولتر، واحدة من أشهر المعلقات في اليمين الأمريكي. تحقق كُتبها مبيعات كبيرة، لذلك كثيرا ما تُدعى إلى أكبر الشبكات التلفزيونية والإذاعية في أمريكا. تتنبأ كولتر بأن المسلمين سيستحوذون على السلطة في فرنسا بعد عشر سنوات. كما أنها تقول: «لقد كنا نحارب الشيوعية.. كان للشيوعيين مجرموهم، لكنهم كانوا بيضا وأسوياء العقل. الآن، نحن في حرب ضد وحوش حقيقية». وتوضح: «إننا نتلقى هجمات مسلمين متوحشين ومتعصبين منذ 02 سنة. ليست «القاعدة» هي التي اعتقلت رهائننا في إيران. ليست القاعدة هي التي وضعت قنبلة في ملهى ليلي في برلينالغربية، وهو ما حمل رونالد ريغان على قصف ليبيا». لكن ليبيا ليست إسلاموية... «يمكنكم أن تقولوا ذلك، لكنني ما زلت أرى المسلمين يقتلون الناس». من جهته، صرّح رئيس الوزراء الإيطالي، سيلفيو بيرليسكوني، في 62 شتنبر 1002، بأنه «ينبغي أن ندرك ونعي تفوق حضارتنا (...)، أي أن نعي نظام القِيّم، الذي عاد على البلدان التي تبنّته بالرفاه الضامن لاحترام حقوق الإنسان والحريات الدينية». وقد اعتبر برليسكوني أنه، بفضل «تفوق القيم الغربية»، كانت هذه الأخيرة «ستطال شعوبا جديدة»، موضحا أن هذا الأمر «حدث مع العالم الشيوعي ومع جزء من العالم الإسلامي، لكن جزءا من هذا الأخير بقي، للأسف، متخلفا 0041 سنة إلى الوراء».. أما جون فرانسوا ريفيل، فيثمن في كتابه «L'Obsession antiaméricaine» (هوس معاداة أمريكا)، كون جورج والكر بوش وعدداًَ من المسؤولين الأوربيين زاروا بعض المساجد، بعد أحداث 11 شتنبر ليتفادوا، بشكل خاص، أن يصبح العرب الأمريكيون في الولاياتالمتحدة أهدافا ل«أعمال انتقامية». لكنه يقول إن «هذه الخطوة تُشرِّف الأمريكيين والأوربيين، لكن يجب ألا تعميهم عن الكراهية التي يُكنّها للغرب جل المسلمين الذين يعيشون بيننا». ويؤكد الفيلسوف، حرفيا، أن الأمر يتعلق ب«جل المسلمين»، غير أننا نجهل ما إذا كان يقترح طردهم!.. وتجد مثل هذه التصريحات صداها وسط الرأي العام، فالحرب الباردة، خلال الثمانينيات، لم تعبئ الجماهير بشكل كبير وظلت قضية تخص القيادات العليا، وكانت الشيوعية قد فقدت جزءا كبيرا من قوة الجذب، و«الفزّاعة الحمراء» لم تعد تثير حملات «مطاردة الساحرات».. إلا أن الحرب ضد الإرهاب توقظ نوعا آخرَ من التجاوب، ويتعلق الأمر بكون جزء من الرأي العام الغربي والإسلامي مستعدا لأن يصدق أن الخلافات الحالية تكتسي، فعلا، طابع الصدام الحضاري. لم تعد الانقسامات قائمة، إذن، بين الأقوياء والضعفاء، بين الأغنياء والفقراء، بين الميسورين والمعدَمين، بل بين «هم» و«نحن». بات كل بلد غربي يستغني عن مفهوم «صراع الطبقات»، ليقف وراء يافطة «الصراع ضد الآخر»، وهو ما قد يتسبب في اندلاع حرب ألف سنة أخرى، ستكون نتيجتها الوحيدة هي تعزيز الفوضى والتشرذم القائمين اليوم. (أرشيفات لوموند دبلوماتيك) شتنبر 4002