يسجل للعاهل الإسباني خوان كارلوس أنه قبل أن يتربع على العرش، أقدم على مبادرة انفتاح على المغرب، تبلورت معالمها عشية انطلاق المسيرة الخضراء في السادس من نونبر 1975. إذ لم يكن يرغب في حدوث مواجهة بين الجنود الإسبان وجموع المدنيين المغاربة الذين زحفوا لتكسير الحدود الوهمية. وقتذاك، كان الجنرال فرانكو يحتضر على سرير الموت، الذي لم يمهله كي يحقق أحلامه في الصحراء، وكانت إسبانيا موزعة بين دعاة التشدد في مواجهة المغرب عبر استخدام القوة العسكرية وأنصار الحوار والاعتدال، غير أن الأمير خوان كارلوس انتزع مبادرة سياسية تمثلت في توجيه رسالة إلى الملك الراحل الحسن الثاني، راجيا إيجاد حل للمأزق. وفي تفاصيل المبادرة أن إسبانيا لا تريد المواجهة مع المدنيين العزل وتتوق إلى موقف يحفظ لها ماء الوجه، في ضوء الالتزام بفتح حوار مسؤول مع المغرب توج بإبرام اتفاقية مدريد. وقد رد الحسن الثاني بلباقة على الموقف الإسباني لدى دعوته المشاركين في المسيرة الخضراء إلى التوقف والعودة، بعد أن حققت المسيرة أهدافها. وإنها لصورة تدفع إلى التأمل في دلالاتها وأبعادها، وقد مرت حوالي 35 عاما على الحادث، إذ لا تزال إسبانيا نفسها موزعة بين منطقي الانفتاح على المغرب أو التشدد في مواجهته وكأن شيئا لم يحدث طوال هذه الفترة، إذ تغيرت أفكار ومفاهيم ونبوءات، ولم تتغير بعض العقليات في شبه الجزيرة الإيبيرية، مع أن فرانكو ونزعته ذهبا إلى غير رجعة، لكن لا يزال هناك أحفاد المدرسة الاستعمارية لا يأبهون بالمتغيرات على الأرض. الآن، وقد هدأت العاصفة إلى حد ما، بما يجعل الرؤية تزيد وضوحا إزاء راهن ومستقبل العلاقات المغربية الإسبانية، سيكون مفيدا استحضار المنهجيات التي اتبعت في تجاوز أزمات عدة اعترت هذه العلاقات، ولا شك أن مبادرة العاهل الإسباني خوان كارلوس في الاتصال بالملك محمد السادس من قصره في مدريد، تعتبر ودية وذات دلالات في تأكيد الحرص على تجنيب علاقات البلدين أي نوع من المزالق. ولأن التحية ترد في التقاليد المغربية بأحسن منها، فقد صادف الحرس الإسباني اهتماما أكبر من الجانب المغربي، الذي يرى أنه مهما كانت الخلافات، فإن البلدين محكوم عليهما أن يتعايشا في محيط يسوده الأمن والاستقرار والسلم والاحترام المتبادل، وقد فتحت الالتفاتة المغربية المجال واسعا أمام تأكيد ثوابت هذه العلاقات، خصوصا أنها قائمة بين مملكتين وشعبين تربطهما علاقات تاريخية وتطلعات مستقبلية أكبر من أن تتأثر بالعوارض الطارئة. اللافت أنه في الوقت الذي يتجه فيه البلدان قدما إلى إزاحة الأشواك التي تعترض السير العادي لهذه العلاقات، يأبى زعيم الحزب الشعبي الإسباني إلا أن يختار مناسبة تخليد ذكرى المسيرة الخضراء لبرمجة زيارة استفزازية أخرى إلى مدينة سبتة السليبة، وفي ذلك إشارة إلى أن بعض العقليات الساعية إلى العودة إلى الوراء لم تتقبل بعد أن تكون الرباطومدريد أنهيتا خلافاتهما حول قضية الصحراء، في جانبها الذي يطال جلاء الإدارة والجيش الإسبانيين، بل إن القضية تحولت إلى عقدة حقيقية لدى الحزب اليميني المحافظ، الذي لم يعرف بعد كيف يتخلص من رواسب الماضي الاستعماري. خطورة هذه المواقف الملتهبة لا تكمن في تداعياتها على صعيد العلاقات بين البلدين الجارين، وإنما تتجاوز ذلك نحو السقوط في مزالق كبرى. لم ينتبه الإسبان بعد إلى أن هناك أطرافا داخلية تريد أن تسير في الاتجاه الخطأ، وبعد أن استشرت ظاهرة الميز العنصري تجاه المهاجرين الأجانب، وخصوصا القادمين من الضفة الجنوبية للبحر المتوسط، هناك من يصر على فرض توجه يميني متطرف، والأمر لا يجب أن يكون مدعاة إلى قلق الإسبان وجيرانهم فقط، وإنما شركائهم الأوربيين كذلك، في ضوء تنامي الظاهرة التي يتم تصريفها عبر أشكال شتى من عداء الأجانب. إن ما حدث للشبان المغاربة في المعبر الحدودي لمدينة مليلية المحتلة يجب أن يوضع في هذا الإطار، عدا أنه من مخلفات أفكار يمينية وعنصرية تسعى إلى فرض الأمر الواقع، من خلال استمرار احتلال المدينتين المغربيتين. وإذا كانت هناك أصوات ترتفع ضد هذا الميل المعاكس لروح التعايش داخل المخيمات الأوربية، فإنه سيكون حريا ببلدان الاتحاد الأوربي أن تضغط على إسبانيا لتحقيق الجلاء عن المدينتين، عبر وصفة الحوار التي لا بديل عنها. وتحتفظ وثائق الاتحاد الأوربي بموقف صريح للمغرب عندما رفض الأمر الواقع بفرض نظام شينغن على فضاء المدينتين المحتلتين، عدا أن الاتحاد لم يجار في أي وقت دعوات إسبانية متشددة للضغط على المغرب في عهد حكم الحزب الشعبي الإسباني. لم يعد الحوار بين المغرب والاتحاد الأوربي يتطلب وساطات وإكراهات، فقد صار ممكنا أن يبدأ ذلك الحوار في أي وقت وحول أي قضية، في ظل حيازة المغرب وضعا متقدما في علاقاته مع الشركاء الأوربيين، وإذا اهتدى إلى صيغة براغماتية لبلورة تصور حول آفاق العلاقات المغربية الأوربية، في ظل احتواء الأزمة مع إسبانيا، فإن ذلك سيشكل تطورا هاما، أقله أنه سينزع عن بعض الأوساط الإسبانية مبررات أن قضية سبتة ومليلية لا يثيرها المغرب في المحافل الدولية. الأصل في اختيار منهجية الحوار بين الرباطومدريد أنه يعكس الرغبة في الإبقاء على الإطار الثنائي مجالا حيويا لدراسة كل الملفات العالقة، وهذا نموذج قل نظيره في العلاقات بين الدول، حيث لم تتأثر العلاقات باستمرار طرف في احتلال أراضي الطرف الآخر، فقد أبرم البلدان معاهدة الصداقة وحسن الجوار في ضوء استمرار خلافاتهما حول السيادة على المدينتين المحتلتين، وإنجاز خطة تمرير الغاز الجزائري عبر الأراضي المغربية نحو إسبانيا، في غضون توالي تلك الخلافات متعددة الأطراف والخلفيات، غير أن ما يعزز هذا التوجه، أنه كلما خطا البلدان قدما في ترسيخ علاقات التعاون والثقة، سهل تجاوز المطبات التي تعترض الارتقاء بتلك العلاقات إلى مستوى متقدم من النضج والحوار والفعالية، والكرة الآن في الملعب الإسباني الذي حان الوقت ليحذر السقوط في مزالق تطرف لا يخدم المصالح المشتركة للبلدين وللمنطقة ولآفاق الشراكة المغربية الأوربية.