إذا كانت تدخلات المجتمع المدني عبر العالم تتسم بالحياد والابتعاد عن الخوض في ما هو سياسي، فإن عددا من مكونات هذا المجتمع بإسبانيا لا يلتزم بهذا المبدأ كلما كانت هناك دوافع للتعبئة ضد مصالح المغرب. فكثيرة هي منظمات المجتمع الإسباني التي ترتدي ثوبا حقوقيا أو إنسانيا فتختلق المشاكل والقضايا لتوظيفها في قضايا سياسية من أجل إحراج الحكومة المغربية والضغط عليها لتحقيق مكاسب أو الحفاظ على مصالح لوبيات إسبانية. فقد اعتادت هذه المنظمات على احتضان المناوئين لمغربية الصحراء والترويج لأطروحتهم وأصبحت، خلال السنوات الأخيرة، لا تتردد في التعبئة ضد المصالح المغربية تحت تبريرات حماية حقوق الإنسان أو دعم حق تقرير المصير، فيتم تضخيم الأحداث والمبالغة في الاستفزازات والإشاعات المغرضة، وبالمقابل يتم صرف النظر عن معاناة المحتجزين في مخيمات تندوف وما تعرفه من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. ولعل التعامل السلبي مع محنة ولد سلمى مثال صارخ لفضح منهجية الكيل بمكيالين التي تنهجها منظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام الإسبانية. وفي جميع الحالات، تعكس هذه التعبئة الممنهجة نزعة العداء التاريخي تجاه المغرب الذي تختزنه الذاكرة الإسبانية نتيجة لاحتكاك علاقات البلدين بحكم الجوار وما ترتب عنها من محطات مخيبة لآمال الإسبان في التوسع والهيمنة انطلاقا من الحكم العربي الإسلامي في الأندلس، فمعركة وادي المخازن، ثم حرب الريف، وأخيرا المسيرة الخضراء التي شكل تنظيمها والنتائج المترتبة عنها عقدة مركبة للإسبان. عدم تخلص الإسبان من عقدة استرجاع المغرب للصحراء إذا كان الاحتلال الإسباني للصحراء انطلق رسميا منذ 1884، فإن سلطاته حاولت في فترات مختلفة، منذ هذا التاريخ إلى غاية استرجاعها من طرف المغرب سنة 1975، ضم هذه المنطقة إلى إسبانيا، غير أن تلك المحاولات باءت كلها بالفشل، ومن أهمها: محاولة 1946 المؤدية إلى إحداث ما سمي بإفريقيا الغربية الإسبانية، ومحاولة 1958 المؤدية إلى تحديد النفوذ الاستعماري الإسباني في ما أطلق عليه الصحراء الإسبانية. وبعد هذا الفشل، حاولت إسبانيا سنة 1974 تنفيذ مخطط استعماري جديد يرمي إلى إحداث كيان مستقل تابع لها تحت غطاء تقرير المصير، لكن يقظة المغرب أدت إلى إحباط هذا المخطط بعد إصدار الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية الذي أكد أن الصحراء لم تكن، أثناء الاحتلال الإسباني، بدون مالك وأن هناك حقوقا تاريخية للمغرب في الصحراء من خلال التأكيد على روابط البيعة والولاء بين سكان الصحراء وسلاطين المغرب. وبالاستناد إلى هذا الرأي، تمت المبادرة إلى تنظيم المسيرة الخضراء التي أفضت إلى الضغط على إسبانيا للجلوس إلى طاولة المفاوضات وإبرام اتفاق مدريد بين إسبانيا والمغرب وموريتانيا في نونبر 1975. وبناء عليه، تمكن المغرب من استرجاع الصحراء بكيفية سلمية بعد الجلاء النهائي للجيش الإسباني في فبراير 1976 . كان لا بد من التذكير بهذه التطورات للدلالة على أن الإسبان لم يتمكنوا من استيعاب المنهجية المحكمة التي اتبعها المغرب لوضع حد للاستعمار الإسباني للصحراء الذي دام أكثر من 90 سنة، بل منهم من يعتقد أن المغرب استغل مرض فرانكو للضغط على الحكومة الإسبانية من أجل التوقيع على اتفاقية مدريد. ومن المؤكد أن هذا الاعتقاد ما زال يغذي مشاعر الحقد والعداء ضد المغرب لدى عدد من الأوساط الإسبانية. وهكذا لا يقتصر الأمر فقط على تقديم الدعم والمساندة إلى خصوم الوحدة الترابية المغربية عبر آليات مختلفة، وإنما تتم المتاجرة بقضية الصحراء للضغط على الحكومة المغربية من أجل تحقيق مصالح لوبيات إسبانية في المجالات الاقتصادية عامة والصيد البحري خاصة، كما تستعمل قضية الصحراء لصرف النظر عن استمرار الاحتلال الإسباني لسبتة ومليلية. إلى ذلك، يضاف توظيف الصحراء في الصراع الحزبي في المناسبات الانتخابية، حيث تستغل كأصل تجاري لكسب الدعم لهذا الحزب أو ذاك، فتتم تعبئة المجتمع المدني وتكثف الحملات الإعلامية لدعم أطروحة المناوئين لمغربية الصحراء. وفي حالات كثيرة، ترفع الشعارات الانتخابية التأجيجية وتتم المبالغة في القيام بأعمال أو الترويج لادعاءات مستفزة لمصالح المغرب، وهي المنهجية التي يتبعها بدقة حاليا الحزب الشعبي اليميني في مواجهة الحزب الاشتراكي الحاكم . الترويج لتنظيم «أسطول الحرية» نحو الصحراء تكريس لنزعة استعمارية بائدة إذا كانت منظمات المجتمع المدني الإسباني المساندة للبوليساريو لا تتوقف عن ابتكار الأساليب لإحراج المغرب عبر متاهات تضليلية مفضوحة، فإنها، خلال الفترة الأخيرة، عززت ممارستها بأسلوبين جديدين، يتعلق الأول بإيفاد نشطائها إلى الصحراء لدعم بعض الانفصاليين أثناء وقفاتهم المستفزة، مستغلة في ذلك فضاء الحريات في الصحراء على خلاف ما يجري في تندوف حيث يطال المنع والاعتقال حتى الصحفيين الذين يرغبون في التغطية الإعلامية للأوضاع في المخيمات، وكمثال على ذلك ما تعرض له صحفيان من أسبوعية «الصحراء الأسبوعية» نهاية الأسبوع الأخير من معاناة وتنكيل على أيدي الأجهزة الأمنية الجزائرية المتحكمة في منافذ الدخول إلى المخيمات. فسلوك النشطاء الإسبان يعتبر ممارسة شاذة في علاقات الجوار لا يمكن قبولها مهما كانت المبررات، وهي مرفوضة في الممارسة الدولية، قانونيا وعرفيا، فضلا عن كونها تسمم علاقات البلدين وتمس بالالتزامات المترتبة عن حسن الجوار، فماذا سيكون رد فعل الحكومة الإسبانية لو شارك مغاربة في مظاهرة ضدها لمنظمة إيتا الباسكية؟ أما الأسلوب الثاني الجديد فيتمثل في قيام عدد من المتطرفين من المجتمع المدني الإسباني بالترويج لتنظيم ما يطلقون عليه «أسطول الحرية» نحو الصحراء. ومن المؤكد أن هذا الأسلوب ينطوي على مغالطات واضحة، حيث تعتبر الصحراء فضاء مفتوحا وتتوفر فيها كل الضمانات لممارسة كافة الحريات والحقوق وينعم سكانها بكل الحاجيات الضرورية والتكميلية للحياة. وتبعا لذلك، فإنهم لم يستغيثوا بأي أحد لمساعدتهم على التمتع بالحرية. ومن ثم، فكل من حاول إقحام نفسه في الموضوع فهو طفيلي ولا يراعي مشاعر الآخرين. ولئن كان هؤلاء يتخيلون أن سكان الصحراء محرومون من الحرية وأنهم، بأسطولهم، قادرون على إعادة الحرية إليهم، فإن طرحهم لا يماثله سوى الطرح الاستعماري البائد الذي كان ينظر إلى الشعوب نظرة احتقار تشي بكونها متخلفة وفي حاجة إلى الاستعمار لتحضرها. وبالفعل، فإن هذا الأسلوب يترجم النزعة الاستعمارية التي لا زال يحملها هؤلاء المتطرفون. وليس أدل على ذلك من كونهم حائرين حول تاريخ انطلاق أسطولهم بين 14 نونبر القادم لكونه يؤرخ لذكرى إبرام اتفاق مدريد الذي لم يتمكنوا بعد من تجرع مرارته، و27 فبراير تاريخ الجلاء الإسباني من الصحراء. وكلا هذين التاريخين يمثلان عقدة متجذرة بالنسبة إلى هؤلاء لم يتمكنوا من التخلص منها إلى حد الآن . وهكذا، لا يعدو التفكير في تنظيم الأسطول المذكور أن يكون مجرد مناورة جديدة لا تختلف عن عدد من المناورات السابقة، وهي تنبعث من وجدان استعماري مفعم بالحقد والكراهية لإحراج الحكومة المغربية، وربما دفعها إلى ارتكاب خطأ منعها وبالتالي كسب تعاطف وتأييد الرأي العام الدولي، خاصة أن التوقيت يتزامن مع دراسة قضية الصحراء من طرف اللجنة الرابعة التابعة للأمم المتحدة. لكن ما ينبغي أن ينتبه إليه هؤلاء المتطرفون هو أن مبادرتهم تشكل استفزازا ليس للحكومة فقط ولكن لسكان الصحراء. ومن غير المستبعد أن يقود هذا الاستفزاز إلى ردود فعل شعبية تلقائية ضد هذه القافلة قد تنطوي على مخاطر أمنية حقيقية يصعب التحكم فيها. فلا بد من الحذر وعدم التهور. وليعلم هؤلاء بأن واقع الصحراء تغير جذريا عما كان عليه الحال قبل 35 سنة، وأن سكان الصحراء يتمتعون بما يكفي من المؤهلات والقدرات للدفاع عن حقوقهم وحرياتهم دون حاجة إلى تدخل أجنبي يذكرهم بسنوات الاستعمار المريرة. ذ. محمد حنين القانون العام بجامعة محمد الخامس