عاش المفكر الجزائري الكبير محمد أركون، الذي وافته المنية أول أمس بباريس عن سن تناهز الثانية والثمانين، أكثر من ثلاثين عاما في فرنسا، وارتبطت حياته الفكرية الغنية بهذه البلاد أكثر مما ارتبطت ببلده الأصل الجزائر، وقبل أن يلقى ربه أوصى بدفنه بمدينة الدارالبيضاء في المغرب، أرض ابن خلدون وابن رشد وابن طفيل وباقي أعمدة الفلسفة العربية، فقد كان المفكر الراحل يجد في المغرب، الذي ارتبط به من خلال الزواج، بلد الحرية والفكر وكان يتردد عليه باستمرار، وكان يلقى الترحيب ويتنفس هواء الحرية في وقت لم تكن فيه بلاده الجزائر -التي خضعت للوصاية في كل شيء، من السياسة إلى الثقافة- تتيح سوى مساحة قليلة للحركة لكي يعبر عن أفكاره بشكل حر. إنها شهادة تجاه المغرب من مفكر جزائري كبير، عرف -قيد حياته- خبايا السياسة. وهي شهادة ترجح وحدها على مجموع «الشهادات» السيئة التي تأتي من جماعة سياسية وعسكرية لدى جارتنا الجزائر، المحكومة بالحسابات السياسية ضيقة الأفق، شهادة تؤكد عراقة تاريخ المغرب قبل أن تظهر الجزائر كدولة مستقلة في القرن العشرين، مغرب يوسف بن تاشفين والمولى إسماعيل والحسن الأول، أيام كان نفوذ السلطان يمتد من جبل طارق إلى بلاد النيجر، وهي شهادة ترد الاعتبار إلى هذا التاريخ وتريد أن تقول إن السياسة لن تستطيع أن تغير منه شيئا مهما جندت لذلك من وسائل إعلام وأنفقت عليه من أموال طائلة في الدعاية وحبك الدسائس، لكنها أيضا شهادة على أن المثقفين في البلدين يمكن أن يكون لهما دور في ما يحصل بين هذين الجارين بدل أن يبقوا في موقع المتفرج، لأن وصية مفكر جزائري كبير، شكل أحد الأعمدة الفكرية الذي كانت الجزائر تفخر به، بأن يدفن في أرض المغرب ليست قضية سهلة بل تتضمن رسائل متعددة.