تتنافس الدول العربية، والخليجية منها بالذات، على تسمية سفرائها وإعادة فتح ما أغلق من سفاراتها في بغداد في هجمة تطبيعية لافتة للنظر مع حكومة السيد نوري المالكي، مما يطرح العديد من علامات الاستفهام حول طبيعة هذا التوجه، والأهداف الكامنة من ورائه. دولة الإمارات العربية المتحدة كانت الرائدة في هذا الإطار عندما زار وزير خارجيتها الشيخ عبد الله بن زايد بغداد، وأعلن من هناك عن إعادة فتح سفارة بلاده، وذهبت حكومته إلى ما هو أبعد من ذلك عندما شطبت سبعة مليارات دولار هي مجموع الديون العراقية، وسمت سفيرها إلى بغداد في لفتة ترحيبية بالسيد المالكي الذي حط الرحال في عاصمتها الأسبوع الماضي. العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني كان من المفترض أن يتوجه إلى بغداد في زيارة رسمية هي الأولى من نوعها لزعيم عربي منذ الاحتلال الأمريكي للعراق، ولكن لأسباب غامضة، قيل إنها أمنية، جرى تأجيل الزيارة على أن يحدد موعد جديد لها في مرحلة لاحقة. وكانت البحرين قد سارعت بتسمية سفيرها إلى بغداد، وقالت المملكة العربية السعودية إنها تدرس إمكانية إعادة فتح سفارتها، ومن المقرر أن تحذو الحذو نفسه دول عربية أخرى في الأيام أو الأسابيع القليلة المقبلة. لا نعتقد أن الحكومات العربية تقدم على عملية التطبيع الدبلوماسي هذه مع حكومة عراقية طالما اتهمتها بالطائفية وطمس عروبة العراق، بمحض إرادتها، وبناء على قناعة راسخة، وإنما تلبية لأوامر أمريكية صارمة في هذا الصدد. فالرئيس الأمريكي جورج بوش الابن مارس ضغوطا مكثفة على حلفائه العرب لإعادة فتح سفاراتهم في بغداد أثناء زيارتيه الأخيرتين للمنطقة العربية في كانون الثاني (يناير) وأيار (مايو) الماضيين، تحت ذريعة عدم إخلاء الساحة لإيران، وبذل كل جهد ممكن لمواجهة نفوذها المتزايد. السؤال الذي يطرح نفسه هو عما إذا كانت عملية التطبيع العربي المتسارعة مع حكومة المالكي ستحقق هذا الهدف، وتضع حدا للنفوذ الإيراني، الإجابة بالنفي طبعا، لأن الحكومات العربية أصبحت خارج كل المعادلات السياسية في المنطقة بأسرها، وتحولت إلى أداة طيعة في يد السياسات الأمريكية. حكومات تقاد مفتوحة العينين إلى حفرة الفشل الأمريكي العميقة، ودون أن يكون مسموحا لها بالحد الأدنى من النقاش ولا نقول الاعتراض. فالعرب الذين يصرخون من النفوذ الإيراني المتزايد في العراق هم الذين يتحملون المسؤولية الأكبر في هذا الصدد، عندما تواطؤوا في معظمهم مع الحصار ومن ثم الغزو والاحتلال الأمريكيين لهذا البلد، وعندما فتحوا أراضيهم وأجواءهم للقوات والطائرات الأمريكية لإطاحة النظام السابق، وتسهيل الاحتلال وتسليم البلد لحلفاء إيران المتعاونين مع المخطط الأمريكي. الدول العربية ستلغي حتما الديون العراقية كليا أو جزئيا، لأن إملاءات أمريكية صدرت إليها في هذا الصدد وطلبات أمريكا لا ترد للأسف، الأمر الذي يجعلنا نفترض أن هذه الدول نفسها التي استفزت العراق وقيادته عام 1990 عندما باعت ديون العراق نفسها لشركات تحصيل أجنبية، ورفضت إلغاء الفوائد عليها، أو تقديم أي مساعدات مالية لحكومته الخارجة لتوها من حرب استمرت ثماني سنوات مع إيران، لمنع وصول الثورة الخمينية إلى سواحل الخليج الغربية، فعلت ذلك بأوامر أمريكية أيضا، وللإيقاع بالنظام العراقي في مصيدة الكويت التي أعدت بإحكام من قبل واشنطن، لاستخدامها ذريعة للإطاحة به بعد أن تنامت قوته العسكرية بشكل يمكن أن يهدد الهيمنة الأمريكية على المنطقة الغنية بالنفط واحتياطاته. النظام العراقي السابق كان يحتاج لشطب الجزء اليسير من ديونه، حتى يتمكن من الاقتراض من البنوك العالمية، بعد أن أدار له الأشقاء ظهورهم، ورفضوا توسلاته لمساعدته ماليا، بل ذهب بعضهم إلى ما هو أبعد من ذلك عندما أغرقوا الأسواق العالمية بكميات زائدة من النفط هوت بأسعاره إلى معدلات قياسية لمضاعفة ضائقته المالية والاقتصادية. السفراء العرب الذين سيذهبون إلى بغداد سيكونون بمثابة شهود زور، يقبعون في سفارات أشبه بالثكنات العسكرية، يتوقعون الاغتيال في أي لحظة مثلما حدث لزملائهم الجزائريين والمصريين والأردنيين، وستظل حركتهم محصورة في المنطقة الخضراء فقط في أفضل الأحوال، ولا نعتقد أن سفراء في مثل هذا الوضع سيكونون أهلا لأداء مهمتهم التي جاءوا من أجلها، أي مكافحة النفوذ الإيراني المتزايد، هذا إذا لم يصبحوا أحد أبرز ضحاياه. إيران دولة مؤسسات، وتملك مراكز دراسات، وأجهزة مخابرات قوية، تستشرف المستقبل، ولهذا خرجت الرابح الأكبر من الغزو الأمريكي للعراق، لأن معظم الميليشيات والقيادات السياسية الحاكمة تربت في طهران، وتغذت من مساعداتها، وتدربت ميليشياتها في ثكناتها، بينما كانت الحكومات العربية منخرطة في المشروع الأمريكي، وتتآمر على العراق والقوى العربية فيه، لتكتشف أنها بلا حليف ولا وجود في العراق الجديد. الخطأ نفسه يتكرر للمرة الألف، فخطوات التطبيع العربية مع حكومة المالكي تتم بشكل فردي، وليس في إطار استراتيجية عربية مشتركة تملك رؤيا وآليات عمل، والأخطر من ذلك كله أنه تطبيع مجاني، ودون أي مقابل، فالسيد المالكي سيتردد كثيرا في التنصل من ولائه لإيران من أجل الانضمام إلى المعسكر العربي الذي طالما احتقره، وجعل تصفية هوية العراق العربية على قمة أولويات حكومته، عندما تبنى قانون اجتثاث البعث، وبنى كل مؤسسات حكمه على أسس طائفية صرفة، وغض النظر عن جرائم الميليشيات الطائفية في حق الأبرياء. ومن يتأمل خريطة العراق الحالية، الثقافية والسياسية والإعلامية، يمكن أن يكوّن صورة واضحة عما يعزز هذا التوجه. نفهم أن يتم شطب الديون العربية هذه لو كان العراق فقيرا، أو حتى دولة مستقلة ذات سيادة، ولكنه ليس كذلك، ويعوم على ثروة نفطية هائلة، ولا نعتقد أن الشعب العراقي سيستفيد من هذه الخطوة، ولذلك لن ينظر إليها بعين التقدير. لأن هذا الشعب الذي تعرض إلى أكبر خديعة في التاريخ الحديث، يرى ثرواته تُنهب في وضح النهار، وبلده الأكثر فسادا على وجه الكرة الأرضية، وحكامه الجدد وأتباعهم نهبوا حتى الآن، وحسب التقارير الأمريكية نفسها، أكثر من 25 مليار دولار، وهناك من يؤكد أن الرقم أضخم من ذلك بعدة أضعاف. الأموال العربية لا يجب أن تذهب إلى حكومة المالكي، أو أي من لصوص بغداد الجدد، وإنما إلى ضحايا الاحتلال الأمريكي من أبناء العراق الذين يعيشون حاليا في منافي دول الجوار ولا يجدون لقمة العيش، ويتزاحمون أمام مكاتب الأممالمتحدة بحثا عن فرصة للهجرة إلى أوروبا وأمريكا. الحكومات العربية تتخبط، وتبدو هائمة على وجهها في صحراء التيه الأمريكي، تجلس على أكبر ثروة من نوعها في التاريخ، ومع ذلك لا تملك أي كلمة أو تأثير لا في محيطها الجغرافي، أو الدولي، وإذا امتلكت هذا التأثير فيكون في المكان الخطأ، وبما يتعارض مع المصالح الاستراتيجية العربية. هذا التطبيع المجاني وما يرافقه من كرم حاتمي غير مسبوق مع حكومة لا تستحقه هو تشريع للاحتلال الأمريكي، وكل إفرازاته الطائفية، وهذا ليس جديدا على حكوماتنا العربية على أي حال.