اختتمت القمة العربية أعمالها بصدور إعلان دمشق الذي تحدث عن عدة قضايا، أبرزها تعزيز التضامن العربي والتمسك بالسلام كخيار استراتيجي، والتأكيد على وحدة واستقلال العراق، ولكن ما هو أهم من ذلك أن هذه القمة انعقدت رغم كل الجهود لإفشالها، بمشاركة أحد عشر زعيما عربيا. التأكيد على السلام كخيار استراتيجي من خلال إعادة تفعيل المبادرة العربية التي أطلقتها قمة بيروت عام 2002 أمر متوقع، لأنه لا يوجد أي خيار آخر في جعبة القادة العرب، أما تعزيز التضامن العربي الذي كان شعار القمة فهو لا يخرج عن نطاق التمنيات، لأن ما حدث هو العكس تماما بفعل غياب زعماء عرب مؤثرين مثل الرئيس المصري حسني مبارك والعاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز، أرادوا عزل سوريا وممارسة الضغط عليها من أجل العودة إلى بيت الطاعة الأمريكي مجددا، والقبول بشروط التسوية المطروحة للأزمة الدستورية الحالية في لبنان. قمة دمشق عكست الوضع المهلهل للنظام العربي الرسمي، وحال الانهيار الذي تمر به مؤسسة القمة، مثلما كشفت حجم الشرخ الذي بات يهدد بتقسيم العرب إلى معسكرات سياسية، وكتل جغرافية متباعدة تضعف أواصر الترابط بينها تدريجيا. هناك عدة نقاط يمكن التوقف عندها بعد إجراء قراءة سريعة، ورصد ما دار في أروقة هذه القمة السرية والعلنية يمكن إيجازها كالتالي: أولا: تبين بكل وضوح أن هناك تمردا في أوساط دول الخليج على الهيمنة السعودية، الشقيقة الكبرى في مجلس التعاون الخليجي، فبينما نجحت الضغوط السعودية في ثني زعامات مصر واليمن عن المشاركة في القمة، فشلت مع قيادات دول خليجية أقرب كثيرا من الدولتين المذكورتين إلى القلب السعودي، وشاهدنا زعماء كل من الإمارات العربية المتحدة والكويت وقطر يؤكدون حضورهم بإصرار لافت للنظر. ثانيا: شاركت أربع دول مغاربية من خمس في القمة بزعمائها، وهي الجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا، والمغرب الخامسة بشقيق الملك، وهذا تأكيد أن الجناح الغربي للأمة العربية أكثر تمسكا بعروبته، وبمؤسسة القمة، من جناحها الشرقي، وأنها أقرب إلى دمشق من أي عاصمة مشرقية أخرى. ثالثا: مقاطعة العاهل السعودي للقمم العربية الثلاث الأخيرة في الجزائر وتونس والخرطوم لعبت دورا كبيرا في حضور زعماء هذه الدول لقمة دمشق، وعدم التجاوب مع الضغوط السعودية في هذا المضمار، مما يؤكد استقلالية قرار هذه الدول أولا، وأن قرار المقاطعة للقمم العربية يعطي انطباعا عكسيا، ونتائج سلبية في معظم الأحيان. رابعا: ربما تكون ضغوط السيدة كوندوليزا رايس نجحت في التأثير على قرار العاهل الأردني، ودفعه إلى تقليص حجم مشاركة بلاده في القمة العربية في دمشق، بشكل أثار العديد من علامات الاستغراب خاصة في أوساط الدولة المضيفة، ولكن هذه الضغوط عجزت كليا عن ثني الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وهو الطرف الأضعف، عن شد الرحال إلى العاصمة السورية، وحضور جميع جلسات القمة بمثابرة خيبت توقعات الكثيرين الذين اعتقدوا أن مشاركته قد تقتصر على الجلسة الافتتاحية فقط. خامسا: ظهور مؤشرات على بدء حرب باردة بين ما يسمى بدول الممانعة العربية بقيادة الدولة المضيفة، ودول محور الاعتدال ممثلة في مصر والمملكة العربية السعودية والأردن. فبينما لجأت سوريا إلى التهدئة، وانعكس ذلك بوضوح في خطاب رئيسها أمام القمة، تعمدت دول الاعتدال، وخاصة في مصر والسعودية إطلاق حملة إعلامية مسعورة ضد القمة، وسوريا على وجه الخصوص، من خلال التركيز على بعض السلبيات التنظيمية والإجرائية، مثل ما رددته إحدى القنوات السعودية طوال فترة انعقاد القمة عن كونها الوحيدة التي لم تبدأ أعمالها بقراءة آيات من الذكر الحكيم، ونسي القائمون على هذه القناة أن شقيقاتها من قنوات المنوعات ليس من بينها قناة إسلامية واحدة، ناهيك عن طبيعة الأفلام والبرامج التي تبثها، مضافا إلى ذلك أن بعض الصحف الرسمية المصرية فتحت صدر صفحاتها لكتاب استخدموا أسلوبا متدني المستوى في انتقاد القمة وسوريا على وجه الخصوص. دروس عديدة يمكن استخلاصها من وقائع اليومين الماضيين لانعقاد القمة، أبرزها أن النظام الرسمي العربي وصل إلى درجة من الانهيار باتت تستعصي على الإصلاح، ولا نبالغ إذا قلنا إن التدخلات الأمريكية المباشرة لعبت دورا كبيرا في الوصول إلى هذه النتيجة البائسة، كما أن اللوم كل اللوم يوجه إلى الزعماء العرب الذين استمرؤوا اتهامهم بالعجز، وباتوا يبررون عدم إقدامهم على أي فعل حقيقي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بعدم القدرة، وأعذار الخلل في موازين القوى. فالسياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة العربية تتبع استراتيجية التفتيت لإحكام السيطرة عليها، بعد أن كانت تقوم على التوحيد قبل أن تتحول الولاياتالمتحدة إلى قوة استعمارية عظمى. فبعد الحرب العالمية الثانية تبنت الإدارات الأمريكية قيام كيانات موحدة تتوزع فيها الثروة النفطية على أكبر قدر ممكن من البشر، مثلما هو حال المملكة العربية السعودية وليبيا، أي عكس السياسة البريطانية التي كانت تتبنى التقسيم، وتقيم دولة أو مشيخة فوق أي بئر نفط يتم اكتشافها حتى تظل هذه الإمارات والمشيخات ضعيفة وأسيرة الحماية الخارجية. وأبرز النماذج في هذا الخصوص دول مثل الكويت وقطر والبحرين والإمارات العربية المتحدة. فلم يكن من قبيل الصدفة أن تقرر السيدة رايس زيارة كل من الأردن والأراضي الفلسطينية المحتلة في الضفة وإسرائيل، يومي انعقاد القمة، في بادرة تحد ذات مغزى كبير، فموعد القمة تقرر قبل عام تقريبا، بينما لم يتقرر موعد جولة السيدة رايس إلا قبل أيام أو أسابيع معدودة، مما يؤكد على سوء النية، وتعمد استفزاز دمشق والمشاركة في جهود إفشال قمتها، ونسف ما تبقى من التضامن العربي. زائر المنطقة العربية هذه الأيام يلمس ظاهرة لافتة للنظر، وهي أن حديث الحرب الإقليمية يطغى على كل دواوين النخب السياسية. وهناك همسات المسؤولين تؤكد أن الاستعدادات لاحتمالات هذه الحرب تسير على قدم وساق رغم النفي المتكرر التي تبين أنه يهدف إلى تهدئة الرأي العام، خاصة في لبنان وسوريا وإيران، لمنع الارتباك الداخلي، وحدوث أزمات اقتصادية، وربما هجرة داخلية وخارجية. وتلعب الهجمة الأمريكية الدبلوماسية الحالية دورا كبيرا في تعميق هذه القناعة شبه الراسخة، بل إن هناك من يؤكد وجود علاقة مباشرة بين التوتر الحالي في جنوب العراق، وإقدام دول مثل مصر والسعودية على سياسات كسر العظم مع سوريا، والتصعيد اللافت للتحريض الطائفي المذهبي، وتعميق الخلافات السنية-الشيعية، والتحضيرات للحرب الإقليمية لتسوية كل المشاكل والملفات المفتوحة حاليا، بعد أن باتت الخيارات الدبلوماسية الأخرى محكومة بالفشل. يظل من الجائز القول بأن إعلان دمشق الذي صدر بعد اجتياح القوات العراقية للكويت عام 1990 كان مؤشرا لقيام محور عربي أطلق عليه في حينه دول ال»مع» جاء بديلا للجامعة العربية، وقسم المنطقة على أساس من هو مع أمريكا ومشاريعها في العراق، ومن هو ضدها، وإعلان دمشق الذي صدر، وبعد 18 عاما يأتي في اتجاه معاكس، ومحاولة إلغاء للإعلان الأول، ورد الاعتبار إلى سوريا، من خلال إعادتها إلى موقعها الحقيقي كدولة ممانعة ولو مؤقتا، بعد سنوات من التيه لم تعد عليها إلا بخيبة الأمل وخسارة وجودها في لبنان دون أن تستعيد هضبة الجولان.