لم يترك الرئيس ساركوزي للجبهة الوطنية، بزعامة العنصري جان-ماري لوبان، «شرف» الاستحواذ على قضايا: الأمن، الهوية الوطنية الفرنسية، الإجرام، طرد الأجانب وغيرها من المواضيع التي لها مفعول مخيف في المخيال الفرنسي الذي يخاف من ظله، بل أضاف إلى السلسلة «تحسينات» تستهدف سحب البساط من تحت قدمي هذا التنظيم الذي بنى سمعته على سلسلة من الشعارات الحاقدة والمسيئة إلى العرب، من قبيل «فرنسا للفرنسيين»، «الأجانب يأكلون خبز الفرنسيين ومعاشاتهم»... إلخ. أحد هذه «التحسينات»، الهادفة إلى امتصاص أصوات ناخبي الجبهة الوطنية، يتمثل في ترسانة من الإجراءات تسعى إلى تشديد الخناق على الأجانب، أكباش الفداء التقليديين، من نوع فرض عقوبة 30 سنة سجنا، غير قابلة للتخفيف، على قتلة رجال الأمن، الرفع من سقف العقوبات لمرتكبي أعمال العنف، فرض دباليج إلكترونية على مرتكبي العقوبات المتكررة، نزع الجنسية الفرنسية عن مرتكبي جرائم في حق البوليس ورجالات الدرك بل وحتى رجال المطافئ. تعزيز تضييق قانون الهجرة على دخول وإقامة الأجانب، وهو القانون الذي سيعرضه إيريك بيسون على البرلمان في السابع والعشرين من شتنبر الجاري. ومنذ خطاب غرونوبل في الثلاثين من يوليوز، نجح ساركوزي في استقطاب الإعلام مفصلا صورة على مقاس «جدارمي واعر»! غير أن هذه الاستراتيجية ارتدت سلبا، داخليا وخارجيا على صاحبها وعلى سياسته. وقد مثلت مظاهرات ال7 من شتنبر، التي جمعت 2,5 مليون متظاهر والتي ندد فيها المتظاهرون باختيارات وتوجهات النظام في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وذروة السخط. وبالطبع، لم يفت الجبهة الوطنية الاستخفاف باستراتيجية ساركوزي ورغبته في تجفيف ينابيعها. فالتنظيم، الذي شهد النور عام 1972 والذي مر بمراحل شد وجذب عديدة، يعيش اليوم نقلة نوعية على المستوى المذهبي والعملي مع حفاظه على ثوابت هي التي صنعت شهرته وشعبيته، إذ بدل أن تنكمش قاعدته، كسب، على العكس من ذلك، مزيدا من النفوذ في أوساط شرائح كانت بالأمس محسوبة على الحزب الاشتراكي، وبخاصة على الحزب الشيوعي. ولعبت شخصية جان ماري لوبان، سليل الإيديولوجية النازية والأفكار الكاثوليكية الرجعية، دور المحرك الدافع. عن سن يناهز 72 عاما، وبعد 38 سنة من تاريخ مشبع بالأحقاد الصريحة ضد الأجانب، يستعد لوبان اليوم لأخذ التقاعد وتسليم مفاتيح التنظيم (محتفظا، طبعا، بنسخة منها) إلى أحد نائبيه: إما ابنته مارين لوبان (42 سنة) أو مساعده الأيمن، برينو غولنيش (60 سنة). وقبل مظاهرات السابع من سبتمبر ضد ساركوزي بيومين، أطلق المجلس الوطني للجبهة الوطنية حملته الداخلية لتعيين خليفة لجان ماري لوبان. وإلى أن يعين الرئيس القادم أو الرئيسة القادمة للجبهة الوطنية في شهر يناير المقبل، سيقوم المرشحان، لكسب أصوات أعضاء المجلس، بحملة مزايدة شرسة على حساب الأجانب، وخاصة منهم العرب وكأنهم خردة في «سوق الدلالة». كما سيحاولان، كل على طريقته، إعطاء البرهان لساركوزي على أن الجبهة الوطنية تبقى الأب الإيديولوجي الروحي الوحيد الذي يناضل من أجل «تنظيف» فرنسا، بالكامل واللامع، من الأجانب وليس هو أو وزراءه أمثال بريس أورتفوه أو إيريك بيسون. وهكذا ستظهر على الملصقات وفي الخطابات شعارات واقتراحات أعنف وأبشع مما تعودنا على سماعه في السابق، من نوع: «العرب سرطان يأكل خلايا المجتمع الفرنسي». كما ستدفع الجبهة ببعض العناصر من أصول عربية تعمل بأجهزة الحزب -أمثال فريد السماحي وهو من أصل جزائري، وجان بيار كوهن يهودي الأصل، وهيغات فاطنة ممثلة الجبهة الوطنية في ليزانتي- للبرهنة على «تعددية» الجبهة و«احترامها للاختلاف»! وليس من المستبعد، وهو في فترة راحة واستجمام في المغرب الذي يعشقه عشق المعمرين الجدد فيما يكن لشعبه مقتا صريحا، أن يفتي جان ماري لوبان بشعارات استفزاز مثخنة بالحقد والضغينة، على مارين لوبان أو برينو غولنيش اللذين يبقيان، في نظر عرب ومسلمي فرنسا، حلوف كرموص.