بين الأزقة الفقيرة لدرب الحي المحمدي تنبعث الذكريات الفنية التي أرخت للزمن الغيواني الأصيل، بين حي الكدية والسعادة، عاشت مواهب تعشق أن تعلن الانتماء إلى هذا الحي الشعبي. بين براريك كاريان سانطرال، تعايشت أحلام المقاومة في إعلان مغرب جديد انطلق من الحي المحمدي. من هنا مر بوجميع، باطما، عمر السيد، محمد مفتاح، عائشة ساجد، العربي الزاولي، الغزواني، خليفة، بوؤسا، عشيق... كل أعلن عن عشقه الخاص للحي، وهذه شهادات لأناس أحبهم المغاربة عبروا عن بعض حبهم للحي المحمدي... بين حياة التشرد والفقر والمعاناة، عاش العربي باطما بين أحضان الحي المحمدي.. معاناة في العيش والمرض ومعاناة مع الفن الذي خلّد اسم باطما في ذاكرة المغاربة. عن الفن الجميل، فن «بّاعروب»، يقول مؤلِّف «الرحيل» في الصفحة ال78 من كتابه: «لقد عذبني الفن طيلة حياتي... وكم من مرة، تمنيت لو كنت عطارا أو خضارا أو جزارا أو أي شيء من هذا القبيل... فعلى الأقل ستكون حدة المشاكل أهون من مشاكل الفن... إنها بالفعل حرفة المشاكل والأحزان... وقد صدق من قال إن الفنان شمعة تذوب لتنير طريق الآخرين... قلت في ما سبق إنني كنت، وأنا طفل، أدخل إلى الأكواخ الموجودة في قريتنا وآخذ منها القصب، ثم أصنع النايات، وأنفخ فيها... لم أكن أعلم أن النواة بدأت في إظهار وريقاتها الفنية داخل روحي وكياني... إنها نواة عندما تريد الخروج إلى الوجود تجعل الفنان في حيرة... فهو يبحث عن شيء يحس به، لكنه لا يدرك كنهه... وقد تختلط الأمور عليه. ويدفعه ذلك الإحساس إلى البحث عن طريقه... فكنت، وأنا أبحث، أتعلق بأي شيء أراه إلى إظهار موهبتي... كنت مثلا عندما أركب القطار، ذاهبا إلى البادية أو آتيا منها، أجلس في باب العربة، بل فوق الدرج، ثم أرافق إيقاع عجلات القطار بالغناء... أتصور إيقاعها ثم أغني طيلة مدة السفر... أرتجل كلمات وألحانا وقصائد، تتكلم عن اليأس وأشياء أخرى... وفي البيت، أستمع إلى المذياع وأحفظ الأغاني، حتى غدوت مشهورا بين أترابي بتقليد المطرب فهد بلان.. وكان في الدرب صديق لنا، يكبرنا سنا، يسمى «حماد بن اليازيد»، وكان هو رئيس «عصابتنا» وفريق الكرة... و.. وكل شيء يقع في الدرب بين الأطفال... فكان يجمعنا ثم يأتي بكتب الرسوم المتحركة (زمبلا، كيوي، تارتين، أكيم إلخ...) ويضع وسطنا عصا فوقها «غْرّافْ» كرمز للميكروفون، ونقوم تباعا ونغني، وفي الأخير يعطي هو تلك الكتب، كجائزة لأحسن صوت... وكنت دائما، أنا وصديق آخر، يدعى «عبد النبي»، كان يشتغل كصبي خباز في فران الحومة، نفوز بتلك الجائزة. ثم نذهب إلى الخلاء، ونتفرق إلى جماعتين... جماعة تمثل رفاق البطل، وجماعة أخرى الأشرار... ثم ينشب العراك بتلك السيوف الخشبية، وكم مرة يتحول ذلك التمثيل إلى الواقع، فتنشب معارك حقيقية»!.. ويواصل «بّاعروب»، كما يحب عشاقه أن ينادوه، الحكي عن ذكريات الزمن الجميل بالقول: «كانت أمي رحمها الله، في شبابها تغني... وقيل لي في قريتنا إنها كانت عندما تغني وسط أترابها، يقف المارة لسماع صوتها... وإنها هي من ارتجلت ولحنت أغنية «الحصّادة» التي غنتها مجموعة «ناس الغيوان»، التي نالت شهرة واسعة، وما زالت حتى الآن.. وبِيع من تلك الأغنية عدد كثير من الأشرطة.. وكانت الأغنية في ما يسمى الآن «الهايت براد» في الإذاعة في سنة 1972.. وإخوتي كلهم لهم صوت للغناء إلا واحد، لكنه يكتب في الشعر الحر.. وأبي رحمه الله كان يحب الغناء والرقص والأعراس، أي «النشاط». إننا ممن يُسمَّون العائلة الفنية... لكنْ، في بلد كالمغرب، تقبر فيه المواهب، تشعّبت حياة أهلي وكل واحد توجه إلى أشياء أخرى، إلا أربعة، سلكوا طريق الفن أنا، وثلاثة إخوة.. وفي السابق، عندما كنت أبحث عن نفسي، بين أطلال الفن، كانت النواة قد وجّهتْني إلى كرة القدم، لكنني فشلت كلاعب، بل فشلت في كل رياضة تدربت عليها، كالجري والسباحة وكرة السلة وكمال الجسم... إلخ. حتى إنني في بداية السبعينيات أخذت أتدرب على رياضة الجيدو، لكنْ سرعان ما ابتعدت... وقد سبق وقلت في طي الضلوع القبيح إنني بعد مغادرتي المدرسة، احترفت عدة حِرَف، فذاتَ يوم، وأنا أحرس الدراجات أمام باب السينما، وكانت تلك السينما تُعد مكان لقاء كل أهل الحي المحمدي، فالكل يأتي إليها عندما تعرض فيلما جديدا، فكنا نحن أبناء سينما السعادة، كما كانوا يلقبوننا، نُعَدّ كرؤساء لكل الشباب من ناحية العراك والعنف الذي كان يقع بين أبناء الأحياء في ذلك الزمن، وكم من مرة، كنا نتجول في أكواخ «كاريان سنطرال»، باحثين عن بائعي الحشيش، كان يصادف أن يعرفنا أبناء حي ما، ثم يعتدون علينا بالضرب والسب، فنهرب، لكننا نعلم أن أولئك الشباب سيأتون يوما ما إلى السينما، و«سننتقم» منهم... وكان حارس الدراجات في ذلك الوقت يعد ملتقى أبناء الدرب، وبالأخص سارقي المحفظات إثر الزحام، الذي يكون عادة أمام شباك السينما... فبجانب الحارس، يجتمع بائعو الحشيش والنشالون، والذين ينتظرون مجيء أبناء اعتدوا عليهم، وكل غريب عن الدرب ليس له ثمن كأس قهوة.. الكل يجلس في المكان الذي كنت أحرس فيه الدراجات، حتى الذين يتاجرون في بطاقات الدخول إلى السينما، بعد شرائها من الشباك... يأتون بعد بداية الفيلم ودخول الجمهور ليعدوا أرباحهم... وأذكر أولئك الأشخاص الذين كانوا يتاجرون في البطاقات... «الصليح»، «الضاوي»، «بوشعيب»، و«أحمد ركل»، «البهجة عبد اللطيف»، شباب ذوو بنية قوية، رياضيون يحبون العراك، فلقد كانت عندما تنشب معارك بينهم، وفي الغالب كان سببها البيع والشراء، فترى الدرب كله، نساء ورجالا وأطفالا، يحيطون بالمتعاركين، وقد فار الدم منهم، وكأنهم ثيران أو أسود تتصارع في ما بينها، ولا أحد له القدرة على الدخول بينهم، حتى الشرطة. كانت «سينما السعادة» عالما يعيش وحده وسط حي بأكمله، بل مجتمعا له شروط سيْره وتقاليدُه»... يتبع