اشتهر الموساد بعملياته الاستخباراتية عبر العالم، خاصة ضد العرب والناشطين الفلسطينيين، إلى حد أن البعض جعل منه أسطورة الجهاز الذي لا يُقهر، والحال أن العمليات التي يقوم بها الجهاز بدعوى «مكافحة الإرهاب وتعقب الإرهابيين» تشكل في الحقيقة نوعا من الإرهاب الدولي المكشوف. آخر فضيحة في هذا الاتجاه هي فضيحة انكشاف جريمة اغتيال القيادي في حماس، محمود المبحوح، بدبي، على يد كومندو من الموساد، وقبلها كانت عمليات استهدفت أبو جهاد، ومقاتلي «أيلول الأسود» والنازيين الفارين إلى أمريكا الجنوبية، والمفاعل النووي العراقي واختطاف طائرة حربية عراقية... الحلقات التي ننشرها عن عمليات الموساد في هذا الركن، ليست تمجيدا للجهاز ولا تزكية لعملياته الإرهابية بقدر ما هي استجلاء لعالم الاستخبارات الغريب، الذي تغيب فيه الأخلاق وتتقوى فيه المصالح. الحلقات مقتبسة من كتاب «التاريخ السري للموساد- من 1951 إلى اليوم-» لمؤلفه غوردن توماس. إلا أن توماس لم يكن محايدا في تحريره ل «تاريخ» الموساد، بل يشعر القارئ بأنه يميل إلى تبني الأطروحة الإسرائيلية حول «الفلسطينيين أو العرب الإرهابيين» لأن الكثير من التفاصيل استقاها من مصادر إسرائيلية ومن أشخاص تلوثت أيديهم بدم من اغتالهم الموساد ذات زمن. في 22 أبريل من العام 2004، كان مائير داغان، مدير الموساد، يشاهد التلفزيون في مكتبه بالطابق الأخير في المقر الرئيس للموساد بتل أبيب عندما ظهر على الشاشة مورداخاي فانونو، التقني في مجال البحث النووي الأسبق، الذي كان كشف عن وجود ترسانة نووية إسرائيلية. كانت المشاهد تبين فانونو وهو يغادر سجن أشكلون بعد أن قضى فيه 18 سنة. شابتاي شفيت، أحد مدراء الموساد السابقين، كان قد صرح علنا بأنه لو كان يستطيع، لعمل على قتل فانونو. عرض التلفزيون، كذلك، صورا لمتظاهرين يعارضون إطلاق سراح فانونو، ويصرخون «اقتلوه، اقتلوه»، بينما كان فانونو يرد على المتظاهرين برفع يده نحو السماء في إشارة إلى النصر. وكانت عبارات «خائن، خائن» تختلط مع عبارات التشجيع التي ينادي بها مناصروه، الذين قدموا من جميع أنحاء العالم لاستقباله. لم يسبق لإسرائيل أن عاشت مثل هذا الوضع أو شاهدت مثل هذه الصور التي حيرت حتى داغان واستعصى عليه فهمها. كيف لرجل خان بلده أن يُستقبل استقبال الأبطال من قبل أي كان؟. كان من الممكن أن يتفهم داغان الأمر لو كان فانونو فعل ما فعل من أجل المال واعتنق المسيحية بدل اليهودية التي كان متعلقا بها. وما تعذر أكثر على مدير الموساد فهمه هو الحافز الذي دفع فانونو إلى الكشف عن وجود أول نظام دفاعي إسرائيلي، المتكون من 200 سلاح نووي جعلت إسرائيل تصبح رابع دولة نووية في العالم. داغان كان من الذين شاركوا، منذ البداية، في تشكيل تاريخ إسرائيل الحديث كي تجد مكانها بين الأمم الأخرى. كان له اليقين التام بأن لا شعب غير الشعب الإسرائيلي سبق له أن قاوم وناضل كما الشعب الإسرائيلي. طيلة لياليه الطويلة التي يقضيها في مكتبه وحيدا متفحصا التقارير التي تأتيه من كل مناطق العالم كان دائما يؤنس باله بمبدئه الراسخ، وهو أن دولة إسرائيل هي أهم ما يوجد في العالم. إيمانه هذا ويقينه بهذا المبدإ هو الذي جعله لا يدرك بواعث فانونو التي دفعته إلى إفشاء سر من أسرار الدفاع الإسرائيلي. خلال فترة سجنه، كتب فانونو ما يعادل محتوى 87 علبة من التقارير المفصلة حول إنتاج الأسلحة النووية في مفاعل ديمونة بصحراء النجف. إلا أنها صودرت من قبل السلطات الأمنية عشية خروجه من السجن. لكن بالنسبة لمدير الموساد داغان، هذه الكتابات «تدل على أن معارف فانونو ما تزال غنية بالقدر الذي لا يمكن السماح له بمغادرة إسرائيل». عموما، كان منعه من مغادرة إسرائيل شرطا من شروط الإفراج عنه، كما أنه سيُمنع من الاتصال بأي أجنبي، وسيخضع خط الإنترنت والهاتف للمراقبة، ولن يسمح له بالاقتراب من أي حدود أو بعثة دبلوماسية أجنبية، بحيث يلتزم بالابتعاد عنها بمسافة لا تقل عن 500م، فضلا عن أن فريقا للمراقبة سيظل قريبا منه ليل نهار. فانونو كان قد قبل بكل هذه الإكراهات بلا مبالاة تتحدى السلطات الإسرائيلية من خلال رفع كتفيه. وهي الحركة التي كررها كثيرا أمام داغان عندما حاول أن يفهم ما يجول برأسه في وقت سابق. في الليلة التي سبقت يوم الإفراج عنه، جاءه عميلان من الموساد ليطرحا عليه عددا من الأسئلة بحضور الكاميرا حول دواعي خيانته لإسرائيل، لكنهما لم ينالا منه شيئا مكتفيا برفع كتفيه وتوجيه النقد اللاذع للموساد وما لحقه من ظلم جراء اعتقاله ومحاكمته، قبل أن يضيف أن «المعاملة السيئة التي تلقاها أثناء اعتقاله كانت بتنظيم من الموساد وموافقة منه». في ذلك اليوم، يوم إطلاق سراحه، كان فانونو ما يزال يكرر نفس انتقاداته للموساد بتأييد من أنصاره. مثل الملايين من الأشخاص، تابعت «سيندي»، عميلة الموساد التي لعبت الدور الرئيس في الإيقاع بفانونو سنة 1986، إطلاق سراح الأخير في نشرة الأخبار التلفزية. كانت تعرف أنها بطلة في عيون الكثير من الإسرائيليين بعد أن عرفت كيف تسخر جمالها وتوقع بفانونو، إلا أنها تبقى في نظر البعض الآخر مجرد «ماتا هاري»، هدمت حياة رجل مثالي، تحذوه رغبة كبيرة في خدمة قضية السلام العالمي. سيندي (الاسم المستعار الذي اشتغلت تحت غطائه لما كانت تعمل لمصلحة الموساد) لم تجد شيئا ترد به بعد أن غادر فانونو السجن غير أن تلك حكاية «من الماضي, أنا أديت واجبي. وانتهى الأمر». بينما كان فانونو يستعيد شريط سنوات السجن الطويلة ويخلص إلى اعتبار أنه «فعل ما كان عليه أن يفعل»، حاولت، ربما، سيندي أن تطوي الصفحة نهائيا وتعيش حياة أخرى. اليوم تقيم عميلة الموساد السابقة في منزل راق، قريب من ميدان غولف، في منطقة تبعد عن أورلاندو بحوالي 25 كلم. مازالت تبدو جميلة وهي تعيش حياتها المهنية كمصففة شعر ناجحة. بنتاها بلغتا سن المراهقة اليوم، لكنهما لا تتكلمان أبدا عن ماضي أمهما أمام العموم. إلا أن اصدقاءها الذين تلتقي معهم في ميدان الغولف، الذي تحب أن تتناول فيه طعام الغذاء، يؤكدون أنها خائفة حقا من أن يصيبها مكروه من فانونو أو من أحد أنصاره. إلا أن الأخير صرح بأنه لا يرى في مثل هذا التصرف مصلحة أو منفعة. «بالنسبة لي، يتعلق الأمر بشخص تعرفت عليه في مرحلة ما. كنت شابا وأشعر بالوحدة، فوجدتها بجانبي، ووضعت ثقتي فيها». هكذا لخص الخطأ القاتل الذي مكن سيندي من جره إلى روما لممارسة الجنس معها، لكن بدل أن تحضنه بين ذراعيها، حضنه رجال الموساد. في سنة 2004، أصبحت سيندي، التي توجد في السجلات المحلية بأورلاندو تحت اسم شيريل حنين بينتوف، عميلة عقارية تعمل مع زوجها وأمها ريكي حنين، التي تعيش قريبا من ابنتها. الثلاثة أعضاء ناشطون في الجالية اليهودية. صحيفة «يدعوت أحرنوت» الإسرائيلية ذكرت أن شيريل «غادرت إسرائيل للهروب من وسائل الإعلام والأشخاص الذين يتطفلون على حياتها ويسببون لها المشاكل. شيريل كانت تخشى كثيرا الصحافيين الذين كانوا يأتون لطرح الأسئلة عليها في بيتها. شيريل لم تعد تطمح إلا لشيء واحد، وهو أن تحيا حياة عادية وهادئة. تحاول أن تنسى الماضي، لكنها متوترة. حتى الأقارب الذين كشفوا عن أشياء في حياتها طالهم الإبعاد عن العائلة. إنها منشطرة بين الكتمان والبارانويا».