يستعرض أحمد المديني في هذه السلسلة مجموعة من مشاهداته في الديار المقدسة عندما قام برحلة لحج بيت الله الحرام، وهناك عاين مجموعة من الظواهر التي أثارت انتباهه وجعلته مصرا على ترسيخها في عمل أدبي ينتمي إلى الجنس الرحلي الذي رآه قادرا على قبول تنوع مادته واختلاف أشكالها وأنواعها . «إلى عرفات الله يا خير زائر» أذكر وأنا طفل أن والدي حين كان يأوي إلى أويقات سكينته، ينضوي إلى ركن من الصالة فيه فونوغراف، ويضع عليه أسطوانة يصدر عنها غناء، صوت امرأة شجي، لم أكن أتميز معانيه يومئذ، ولكني كنت أستحسنه، ثم وأنا أكبر شيئا فشيئا صرت أطرب له، ومذ شبابي الأول في منتصف الستينيات وأنا أهيم بسيدة الطرب العربي أم كلثوم، زادني تعلقا بها صديقي وزميلي في غرفة الحي الجامعي سنتنا الأولى العزيز مختار بومكنان، الذي لم تكن تفوته، وهو تلميذ في الثانوي أي سهرة إذاعية للست سومة تذاع مباشرة على راديو القاهرة مساء كل خميس. المرحوم والدي وبومكنان كانا يطربان، يخشعان وهما يسمعانها تغني أغنيتها الدينية التي منها مقطعها: «إلى عرفات الله يا خير زائر..»، ولا أستطيع الادعاء أني سرت على هديهما، احتجت إلى عمر طويل لأنفذ إلى سر خشوعهما، ويا له من سر رهيب! ها نحن، إذن، وقوفٌ بعرفة. قال النبي(ص): «الحج عرفة»، أي أن الوقوف بعرفة ركن من أركان الحج لا يصح الحج إلا به. لا يكفي أن تعرف هذا الشرط، بل أن تتهيأ له، وتخشى أن تصاب بمكروه فيفوتك تحقيقه، مثل وهن جسدي، أو شدة قلق، أو أرق أصابني ليلة التاسع من ذي الحجة، يوم الوقوف بالذات. دعانا الإمام الطيب إلى الوضوء باكرا، واجتمعنا كثيرا في القاعة متعددة الاختصاصات لنصلي الفجر، وبعد الإفطار انتقل كل وفد إلى باصه، وعلى اللسان جرى قول الشاعرالقديم: «ولما قضينا من منى كل حاجة/ ومسّح بالأركان من هو ماسح/ وسُدّت على هدب المهارى رحالنا/ ولا ينظر الغادي الذي هو رائح/ أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا/ وسالت بأعناق المطيّ الأباطح». رغم أن الوقوف بعرفة مطلوب ابتداء من الظهر ليمتد إلى الغروب، ورغم قصر المسافة أيضا بينه ومنى، لا تتجاوز عشرة كلمترات فقد احتجنا، ورغم ما تهيأ لوفدنا من تسهيل مرور إلى أزيد من ثلاث ساعات لبلوغ المكان. يكفي أن مغادرة مِنى وحدها تقتضي ساعة وأكثر، لآلاف الحافلات تنقل آلاف الأفواج، الذين قضوا ليلتهم كلهم هنا، أضف إليهم القادمين من جهات أخرى. اختناق في التحرك والسير لا يمكن أن يوجد في أي نقطة من المعمور إلا هنا. وكل خطوة تحسب حركة، والحركة البركة نفسا ساخنا، يخرجك من الضيق ويمنحك الأمل، الأمل في وصول قريب، أي قبل أن يشرع الزوال وأنت في الطريق. وماذا عن القادمين في عربات متهالكة، وسيارات مكدسة، ودراجات نارية متردية. يا رب ماذا عن الغادين، القادمين حقا، لا صورة، من كل فج عميق، في هذا الصباح المرتبك، الشاق عليّ من أرقي المتعب، السهل لمّا أرى معوقين شجعانا يتعثرون بعكاكيزهم في طرق غبراء، ومسالك حجرية ودونهم أميال، وهم واثقون من الوصول إلى عرفات، لكن كيف ومتى، ويقول جاري، كأنه يحدس حيرتي ومخاوفي: «تأكد أنهم سيصِلون!» فأجيب برهبة وتعجب ظاهرين: «هذا هو الإيمان، وكذا يكون اليقين!»، فيما المصون لا تكف تخبر مراسليها، «حدعي لكو كلكو، يا حبايبي يا حلوين، وبابا كمان، آه، والله». كنت أحسب عرفات محطة محددة بدقة، ومُسيّجة نوعا ما، وبعد أن عرفت أن الجبل القديم توارى، رأيت أمامي سهلا، متخَللا تارة بهضاب، وتارة ينفسح في أكثر من اتجاه، وهناك أراض ذات طبيعة جغرافية متداخلة، وثمة بناء متفرق، وكثير من الحجر والصخر المبعثر، مثل بقايا ردم، أو ورش قديم. وصلنا إلى مدخل عرفات بعد جهد جهيد، والدارفوري يناور بمهارة وخفة في كل مسلك وزاوية، متسللا من معابر جانبية، وإلا ستغرب الشمس ونحن هنا ويضيع علينا الحج. الجميع يستعجله وهو يكاد يطير، والبشر داخل الغبار وتحت شمس لهب. وكما كان المسافرون قديما ينيخون راحلتهم عند الوصول، أناخ الدارفوري حافلته عند مدخل المخيم الخاص بوكالة «دار الإيمان» المكلفة بشؤون تنقلنا. وجدنا خياما مضروبة معدة على أحسن وجه، مكيفة، مزودة بأفرشة، وتناولنا باردا، وما هي إلا هنيهات فدخلنا في وقت الظهر ما يقتضي الاستعداد، سمعنا خطبة إمام مسجد نمرة منقولة إلينا بواسطة المذياع، ونحن مجتمعون داخل خيمة، بدورها متعددة الاختصاص، وإثر انتهاء الخطبة قام فينا إمام من ربعنا ليصلي بنا الظهر والعصر جمعاً وقصراً بأذان واحد وإقامتين، كما فعل رسول الله(ص) ولا يجوز أن يُصلَّى قبلهما ولا بعدهما شيء. بعد انفضاض جمع الصلاة تحولت الخيمة مباشرة، بتعديل طفيف، إلى قاعة طعام، مدت فيها خوانات، ووضعت طاولات وكراس مريحة، وهجم قوم كانوا قبيل لحظات سُجَداً، رُكّعاً على الطعام هجوم الحرس، تحسب أننا في حفل زفاف، وهو حفل ديني على كل حال، وقال المتحمس ذو الطبق المتخم لجاره إن الإسلام دين ودنيا، والحق لم أنل من غذاء عرفة نصيب، فإلى تدافع النهمين بأطباقهم الملأى، المندلقة أمامهم كبطونهم وأكثر، لم أكن قادرا على تحمل كمية الدهون والمرق السائل، وكل طعام مملح لا يطاق، شعرت أن ضغطي ارتفع درجات عن المعتاد، وبرأسي صداع، زيادة على بداية زكام، فيما صخب لاهب يختلط بالمضغ من كل جانب، وغرغرة الأفواه تبلع، وتحتسي قناني السفن آب، والبيبسي، لِترات تباعا، وضمنه بعل السيدة المصون، يبلع وهو لا يكف عن التصوير، بما في ذلك أصناف الطعام، لم يفلت منه إلا الحريم لوجودهن في جناح الحريم! تركت هذا المطعم الثقيل والمخيم كله منتقلا إلى الخارج لأبحث عن حجاج عاديين، عن أولئك المعذبين الذين شاهدتهم قادمين مشيا على الأقدام، معوقين وعجزة ونساء برضّع، خفت أن يكونوا محتاجين، فإذا بي أفاجأ بأكوام من المأكولات تفرق على كل عابر، يوزعها شباب وفتية متطوعون، لا يعنيني لمن ينتمون، إنما الزاد وفير، والبشر يلتهمون، خليط من جنسيات ولغات، ينتظرون العصر، وسيبدؤون الدعاء وطلب الغفران والبكاء أيضا. سمعت زميلي اللبناني الشاب يجهش بالبكاء حين تسلم الشيخ السوري أوان العصر الزمام. اجتمعنا حوله جلوسا ووقوفا وشرع في الدعاء، والتضرع، والاستغفار «خير الدعاء دعاء عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير”(حديث نبوي). يردد ونحن نعيد، وهو يردد، والأكف مرفوعة بالضراعة إلى العلي القدير، فيما يكاد إجهاش جاري يعلو على الدعاء، لا يخفت إلا بعد أن رفع شيخنا صوته ذاكرا من صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي(ص) قال: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة، وأنه ليدنو عز وجل ثم يباهي بكم الملائكة فيقول سبحانه وتعالى ما أراد هؤلاء؟»، «.. ثم وقد حانت ساعة الغروب، وقرب الانصراف، فإن الفقيه الحشاف نبهنا إلى أن الله جل وعلا، وكما صحّ بذلك الحديث، ينزل إلى سماء الدنيا، ويقول لملائكته الكرام، انظروا إلى عبادي، أتوني شعثا غبرا من كل فج عميق، أشهدكم أني قد غفرت لهم، انصرفوا مغفورا لكم.». انخرطنا إثره في الدعاء، كل ورجاؤه، سؤله، أو حزنه، وطلبات المغفرة، بخشوع، بخنوع، ودموع، رانت عندئذ لحظات صمت رهيب، كأن مسلمي الدنيا ليسوا سوى مذنبين، حزانى، كيف أذنب كل هؤلاء الملايين من الفقراء المسلمين؟! أيقنت هنا أن الإسلام دين الفقراء بالدرجة الأولى ليس لهم في الدنيا أمل، هاهم إلى القبلة يتوجهون ليبوئهم الله الجنة خالدين. إلا واحد بمجرد نهاية الأدعية فتح هاتفه يطلب بصوت عال من مخاطبه أن يأخذوا الأبقار إلى السوق، ويساوموا الثمن جيدا، أما حين تركنا عرفة فقد رأيت أكوام الأزبال عالية ربما غطت على الدعوات المرفوعة إلى السماء من قبل هؤلاء المسلمين الغرباء، أبوا إلا تدنيس هذا المقام بنفاياتهم، ويعلم الله كم أعدت السلطات من حاويات نفاية، ووزعت من أكياس. كان ضغطي قد اشتد، وجسدي يخور، والخوف يستبد بي أتساءل لو انهرت هنا من يسعفني، بينا الدارفوري يحاول المستحيل ليغادر المكان، وربما أغمي عليّ ساعة زمن، فقدت الإحساس بأطرافي تقريبا، ولم نبلغ المزدلفة التي هي على مرمى حجر من عرفات إلا بعد ساعتين، منحشرين، ومخترقين آلاف الحافلات، عائدة من حيث أتت، مجروفة بقوة الطوفان، والكل يريد سبق الآخر لجمع الأحجار، وتخيّر أنسبها حجما لرمي الجمار، وطال الليل قبل أن يأمر الله بطلوع النهار، لينصرف الحجيج الهائج، من جديد، إلى بقية المناسك، راكبا، تارة، الطواف المائج، وللفقراء مزيد استغفار حشود لا تنقطع فوق جسور الجمار، ولغيرهم، تارة أخرى، من موقع حجهم، ضبط حسابات وتوقيت مباهج.