يستعرض أحمد المديني في هذه السلسلة مجموعة من مشاهداته في الديار المقدسة عندما قام برحلة لحج بيت الله الحرام، وهناك عاين مجموعة من الظواهر التي أثارت انتباهه وجعلته مصرا على ترسيخها في عمل أدبي ينتمي إلى الجنس الرحلي الذي رآه قادرا على قبول تنوع مادته واختلاف أشكالها وأنواعها . جَدّة؛ أيّ جِدّة! كانت تفصلني عن بدء مناسك الحج ثلاثة أيام مديدة، لكن بما أني اخترت القيام بحج «التمتع» وجب علي التوجه في أقرب وقت إلى مكةالمكرمة لأداء العمرة، يسبق الحج. لقد كنت جاهزا، متهيئا، إذ وصلت إلى المطار محرما، منذ عادت الطائرة تقلع من المدينة، إثر المغامرة الغامضة، العابرة، ومرورنا فوق إحدى مواقع الميقات حيث يتوجب الإحرام والنية مع التلبية. فعلت ذلك بسرعة مثل غيري، لاشيء فوق لحمي غير فوطة بلا مخيط تستر كل عريي، بها انتقلت إلى قاعة الاستقبال فالفندق ونمت، ولم أتركها إلا التقصير الأول، حسب مقتضى مناسك العمرة. حضر المرافق والسائق ظهيرة اليوم التالي، وانطلقنا بسرعة البرق إلى مكة، تغمر نفسي، والحق، خواطر مضطربة، أحاول أن أتذكر كيف كانت وكيف هي اليوم، ثم كيف سأصبح بدوري بعدئذ. في السيارة البويك الفارهة أمضيت الطريق أحادث الشاب خالد اللطيف، رغم أنه مزكوم لن تلبث العدوى أن تصيبني، والحجيج أجمعين. أمضينا وقتا قبل أن نترك جدة التي أضحت شاسعة جدا، مطارها وحده يضم مدينة كاملة لنزول الحجاج، فيما ميناؤها على حد النظر بأرصفته وآلياته وبواخره الراسية والمنتظرة. على يمين الطريق وشمالها كنت أملأ النظر بكل ما تقع عليه العين، ونحن نخترق صفوف آلاف السيارات والشاحنات الرائحة الغادية، دليل حيوية بشرية واقتصادية هائلة. الأرض من الناحيتين متقطعة بين العمران والقفر، وإن غلب الأخير، ولأمر ما لم أبصرها إلا مطروقة بالقوافل ساعية بين رحلة الشتاء والصيف، وقبل أن أشرع في النداء على كليب وتميم ومعد يكرب، وأناجي خولة وجُهينة وذا القروح خاصة، أكاد أتحسس رمادَ أثافيه بعد أن عقر للعذارى مطيته، ظهرت لي عن بعد سلسلة تلال كالجبال، وجبال أقرب إلى التلال، سوداء، هرمية الشكل، سنميّةٌ، مسّننة الأعلى، في صورة خاصرة مفتوحة من الوسط، كلما دنونا منها تقترب أطرافها ويضيق طوْقها كمن يشد إليه حزاما، في وسطه ثقبٌ سننفذ منه إلى ما بعده، تحته وفوقه؛ها، هذه مكة، هذا البناء، أين الكعبة؟! لا شك أن كل القادمين للمرة الأولى يحبسون أنفاسهم، كنت منهم قبل سنين، وأنا الآن أريد أن يتحسن انطباعي المشوش، ضيقي من اختناق المسجد الحرام وسط العمارات، مثلا، وذاك ما وجدت. بدا لي أن عملا مثيرا قد أنجز هنا، إعداداً، وتوسعةً، وطرقاتٍ ومرافقَ محيطة، وإن لم أفهم كيف ُيبنى برج عمارات يطاول السماء لصق الحرام دونه صوامعه، تبدو أنامل دقيقة، وتحتها البشر يسرح كالنمل، أردت أن لا يوجد هنا أي عمران، وبأي طراز كان يتطاول على الكعبة أو يثقل على رمزيتها العظمى. دخلت من باب الملك عبد العزيز، واضعا رجلي اليمنى عند باب المسجد. بخطوة قلقة، ونفَسٍ منقذف طفقت أتقدم في الممر المؤدي من ناحية دخولي إلى جهة الكعبة، حيث ينبغي أن أبدأ طواف الإفاضة، سبعة أشواط حول الكعبة، لأتبعها بالسعي بين الصفا والمروة سبعاً، أيضا. إنما، من أين أبدأ يا إلهي؟! دفعة واحدة قبالة الكعبة يعوم حولها موج بشري، وأنا الذي يعرف أن الموج يلفظ أنفاسه في الجَزْر، ينتهي صخبُه إلى خفوت مميت، أرى موجا يتتابع، ويتوالد من بعضه وهو يتقاذف، وعندما يصل حد الانتقال إلى نقطة السعي المرسومة باسمٍ وسهمٍ يصطخب، قد شد الطائفون بأعناق بعضهم وتلاحموا، لعلي عُصِرت بينهم، لعلي كنت أختنق، أكاد أصرخ ارحموني يا مسلمين، لعل عظامي هرست، ستهرس، لكن أشَدّ خوفي، بل هلعي إنما على نَفَسي يذهب عني، ويدي لا تكف تتحسس الحزام الجلدي حول خصري، يحوي جوازي ومالي، لو ضاعا سأضيع يا مسلمين، حتى والله لا يضيع أجر من أحسن عملا! الحق، أني ما صدقت إن أكملت هذا الطواف، وعلى أي وجه. هل حمدت الله على إتمامه، أم على نجاتي من اختناق بدا للحظة محققا؟ رحت وأنا قلب الكتل البشرية المتكاثرة أتساءل كيف الأمر غدا حين يجد الجد مع بدء موسم الحج، فما العمرة إلا استهلال، أما مع الملايين، فأي تدبير لي ولغيري على السواء، هل سأحج حقا، أم أحتك بهم، مقتصرا على التدافع، لا نُسْكَ، لا خشوعَ، معولا، مدارياً حالي بأن النية حاصلة على كل حال، وهي كذلك. هذا بعض ما قلت للرجل المصري الذي رافقت في السعي بين الصفا والمروة. بدا لي متمكنا من معرفة أداء المناسك، لا تفتر شفتاه عن القراءة، يمشي واثقا من خطوته، تظنه أحد خدام البيت، فسرنا معا، حذوك النعل بالنعل، أعيد ما يقرأه متمهلا، وأقف حين ينهي كل شوط عند المرتفع متوجها بالدعاء باتجاه الكعبة، ومثله أفعل. إلا حين شرعنا في الشوط السادس من السعي، فإنه التفت إليّ يخبرني أنه في شوط سابق لم يتوقف حيث ينبغي، أنه سها، وعليه فسيستأنف من جديد. لم أعاند لأقول له إننا قمنا بكل المطلوب. تركته ليريح ضميره، خاصة، كما ذكر فإن عمرته هذه للمرحومة أمه، وواصلت سعيي أتمه حسب عدّي، لا أكاد أملك الطاقة لاختراق الصفوف بالتوجه، أولا، نحو دكاكين الحلاقين البانغلاديش لتقصير الشعر، تمام العمرة، ولا للالتحاق بعد ذلك بسائق ينتظرني لينقلني حيث أقيم بجدة، هناك خلف الآلاف من أبناء شعوب الأرض المتكاثفين، يلغون بعشرات الألسنة في الباحات الخلفية للحرم، ازّينت أرضيتها بالرخام، ولا تجزم من شدة سطوع الفضاء، نحن في ليل أم نهار، لذا صحّ أن يسمى ضوءَ البيت الحرام. استيقظت الغداة في فندقي المريح بجدة، بحيّ الحمرا المشجّر الظليل، مرتديا لباسي العادي، أمكنني أن أحلق وجهي وأتطيب، وهو شيء لطيف حقا. أفطرت على خاطري، وتصفحت جرائد»الشرق الأوسط، و«الرياض» و«Arab news»، وحين استهلكت أخبارها، وتعليقات كتاب أعمدتها، يظهر بعضهم كمن استأجر دكانا في سوق الإعلام، مزايدين في مهرجان الكلام، تلفتت حولي فجاءني مندوب عن مضيفي يسألني هل أحتاج إلى خدمة فشكرته، لا أحتاج إلا لقدميّ سأنتفض بهما ضد الخمول، . معرفتي بهذه المدينة، في ما أذكر، ترجع إلى سنة 1992، هي المرة الأولى زرت فيها العربية السعودية، مشاركا في مهرجان الجنادرية الثقافي، ينظم سنويا بمدينة الرياض، من ضيوفه عامه ذاك الأستاذ المرحوم إحسان عباس، والمغربي محمد مفتاح، وسواهما من باحثين أجلاء. طلبت في نهايته زيارة الكعبة، ومن هنا انطلقت إليها برفقة ضابط من الحرس الوطني، وأدينا العمرة معا في وقت وجيز، وعدنا إلى جدة، منها بعد ساعات إلى المطار، فباريس الحسناء. جدة، أيضا، وقتئذ كانت ذات بهاء. دخلتها ليلا تحت الستر في فصل الربيع سماؤها نجومية، وشوارعها هادئة، ولمّا أشرق الصباح فوجئت دفعة واحدة ببحرها السارح كسالف غجرية، على امتداد كورنيشها الطويل، يقود إلى الميناء العامر. برومانسيتي الطافحة آنئذ لم أكن أرى إلا الجمال، أو حروفه، عين الرضا عندي عن كل عيب كليلة، فعشقتها من يومها وما أزال. لذا، وأنا أنزل فيها من جديد عام الحج هذا فإنما طفح الاشتياق، وحسبتني أمشي حيث مشيت أمس، وما هو إلا وهمٌ، فقد تبدلت الأرض غير الأرض، لا تسل عن الناس، وإذا مدينة جدة، في حلة أخرى، أيّ جِدة! خلال جولتي الصباحية، الجو رطب، وشمس واقفةٌ فوق الرؤوس على أهبة الانفجار، رغم أن الفصل خريف، نقلت خطوي وسط وبين عمران عظيم، أقل ما يقال. شوارع مديدة، وميادين فسيحة مزينة بأجمل النصب الفنية، وموشاة بالأشجار وُبسُطُ العشب المخضوضر، أزهى ما يكون. ُطرقٌ منسقة، وحركةٌ دائبة لا تلحظ فيها خلل سير أو مخالفة ُسوّاق، بنظافة تلمع. النظافة أهم ما يلفت نظرنا نحن العرب حيثما نذهب بسبب العفونة والعطن السارحين في مدننا. لا تكاد تصدق إذ تراها تلمع، اللهم أن تجد متنطعا بفتوى أن هذه أحياء راقية، يسكنها الأثرياء، فلا تفهم لماذا الأحياء الأخرى، المسماة شعبية، متسخة، مهملة بذاتها، ألأن من يسمون عامة الشعب مهملون، ميالون إلى تجميع الأوساخ، وإن أغلبهم لكذلك، بينما الشعب في دول وبلدان أخرى بسيط ومتواضع العيش، لكن نظيف، ومن شرفات نوافذه تطل أصص الأزهار وتفوح رائحة الياسمين، وعليه فساكنة هذه المدينة، أصلية ووافدة وعابرة نظيفة. ثم تجولت في الأسواق مساء فإذا هي حافلة خلقا، عامرة بضاعة، تستحث الجيوب وتسر الناظرين. نلت فيها حظي من النظر ولم تكن بغيتي الشراء، ولا بمقدوري الجرأة عليها اللهم باقتناء دشداشة لا غنى عنها، أنا القادم عدا زيّ الإحرام بلباس عصري، فكانت العباءة الجدّاوية لي ذات نفع عظيم، هي الآن مغسولة، مكوية، أتلصص عليها من حين لآخر بزهو وهيبة. أمّا في الليل وقد هدأت الدنيا، ولم يبق إلا الخلود إلى النوم فإني، وبعد المرور بطاولة العشاء، هالني حجم أطباق بعض الضيوف، وأصناف ما تجلبه النسوة من طعام كأنهن يستعددن لغزوة بدر، وجدت ضالتي في كتاب الشيخ الفزان، عدت إليه بانتباه أدق، كمتمرن رياضي يستعد لتحقيق رقم قياسي في رياضته، وكان الحج غدا هو رياضة الروح، طبعا!