بين الأزقة الفقيرة لدرب الحي المحمدي تنبعث الذكريات الفنية التي أرخت للزمن الغيواني الأصيل، بين حي الكدية والسعادة، عاشت مواهب تعشق أن تعلن الانتماء إلى هذا الحي الشعبي. بين براريك كاريان سانطرال، تعايشت أحلام المقاومة في إعلان مغرب جديد انطلق من الحي المحمدي. من هنا مر بوجميع، باطما، عمر السيد، محمد مفتاح، عائشة ساجد، العربي الزاولي، الغزواني، خليفة، بوؤسا، عشيق... كل أعلن عن عشقه الخاص للحي، وهذه شهادات لأناس أحبهم المغاربة عبروا عن بعض حبهم للحي المحمدي... للحلقة حضور كبير في ذاكرة الفنانين والرياضيين والمثقفين في الحي المحمدي، ولحضورها تأثير في الإنتاجات الإبداعية لأبناء هذا الحي.. وللحاج فوقار حديث طويل عن فن «الحلقة» في «كريان سانطرال» و«عكاشة» وباقي أحياء الحي المحمدي... فبعد أن رصد الشكل الأول للحلقة (حلقة السِّير)، انتقل المثقف والباحث الحاج في فوقار، في بحثه المعنون ب«الحي المحمدي رافد من روافد الثقافة الشعبية»، إلى التجلي الثاني لفن الحلقة المتمثل في حلقة «المونولوغ». في هذا السياق، يقول الحاج فوقار في الصفحة الرابعة والثلاثين «أستعمل تعبير «حلقة المونولوغ» قاصدا به تحلُّقَ الناس حول شخص واحد يقوم بإضحاكهم، وهو يتطرق لعدة مواضيع يهدف منها إلى انتقاد وضعية ما، أو يلقي بنكتة، أو يحكي عن تجاربه الخاصة، أو مواقف غيره، بأسلوب ضاحك ساخر.. وكل ما كان يميز هذا النوع من «الحلقات» هو كثرتها، ولكن علِق بذهني نموذجان مهمان لهما خصوصيات متميزة، هما نموذج حلقة المرحوم «الشيخ علي» ونموذج حلقة «بوغطّاط»... عن هذين النموذجين يقول الحاج فوقار: «كان نموذج حلقة «الشيخ علي» يعتمد على خفة الظل وإلقاء النكتة والتفنن في أسلوب إلقائها، حتى إنه ليُكرِّرها أياما عديدة، دون أن يمَلَّ المستمع تكرارها، وأغرب ما في هذا الرجل -رحمه الله- أنه كان «يخترع» النكتة في نفس اللحظة، يستمدها أحيانا من الحاضرين، وقد يتخذ جسمَه القصير النحيلَ ورأسه الأصلعَ وفمه «المتهدم» موضوعا لنكتة.. وأغلب مواضيع نكت «الشيخ علي» كانت تدور حول صعوبة الحياة، وارتفاع الأثمان، مع قلة ذات اليد، إلا أن موضوع المرأة بشقيه الجيّد والقبيح كان يأخذ نصيبا وافرا من «قفشاته ومونولوغاته»، حتى إن بعض النساء المتفرجات كنّ يتبرمن من إغراقه ومبالغته في انتقاد سلوك المرأة في بيتها ومع أبنائها وزوجها، بأسلوب يكون دائما فاضحا.. وفي تناول هذا الرجل للنكتة، كان يخصص حيِّزاً مهمّا لموضوع متداوَل ومشهور، أي المقابلة بين البدوي الساذَج الصريح والقوي، وبين المتمدِّن الضعيف، المراوغ والذكي. وإرضاءً للشعور البدوي السائد بين المتفرجين، فإن البدوي كان دائما يحوز الإعجاب وينال الحظوة، وقلما كان منهزما في نكت ومونولوغات «الشيخ علي». وما يمكن أن يستفاد من هذا النموذج هو اكتساب الأسلوب الساخر والمتندر، مع بصمات كاريكاتورية في وصف الأشخاص والأشياء»، يقول الحاج فوقار. أما في ما يخص نموذج حلقة «بوغطاط»، فإنه يتميز، رغم بساطته، بالنقد الشديد لبعض الظواهر الاجتماعية، وهو يستعمل في ذلك مجموعة من الأدوات، منها دمية متوسطة يربطها بخيطين مشدودين إلى طرفيهما بمسمارين، ثم يشرع في استنطاقها عن الملابسات والمفارقات في أحوال الناس.. ومن أطرف ما عُرِف عن «بوغطاط» أنه ينتقد، بشدة، باعةَ الأدوية التقليدية في الأسواق ويعتبرهم سببا في تفاقم الأمراض، ويحاول تحذير الناس من هذا النوع من الأدوية ومن أصحابه، فاضحا بذلك بعض الذين يتزيَّوْن بزي الأعراب الوافدين من الصحراء والذين يجلبون معهم أنواعا من العقاقير، يدَّعون أنها عنبر من سمك الحوت أو بيض النعام، أو يأتون بسحليات حية يبيعون أجزاء منها كدواء.. وكان أسلوبه في الانتقاد أن يتقمص هذه الشخصيات ويتحدث باسمها، ولكن بنقيض ما كانوا يتحدثون به، قاصدا بذلك فضحَ حقيقتهم»... وأقام الحاج فوقار مقارنة مهمة بين حلقة «بوغطّاط» وإحدى التجارب المسرحية المغربية.. وفي هذا الإطار، قال: «بالنظر إلى ما يقدمه نموذج «بوغطَّاط» من مواضيعَ على الطريقة التي ذكرناها، باستعمال وسائل مادية للإيضاح (استعمال الدمية، آلة هاتف قديمة، كمية من التراب الأحمر على أساس أنها دواء... إلخ.). وبحركات تتطلب منه أحيانا الانبطاح على الأرض والقيام بحركات مسرحية تكون أحيانا غاية في الدقة والتعقيد معا، بالنظر إلى كل ذلك، لست أدري لماذا يخامرني هاجس يُلحُّ علي أن أقارن بين هذا النموذج، رغم بساطته، وبين أسلوب وفكرة المسرح الفردي، الذي يتزعمه الأستاذ عبد الحق الزروالي»!... وقد خصَّص الباحث حيِّزاً مهما لتمظهر ثالث لفن الحلقة في الحي المحمدي، ويتعلق الأمر ب«حلقة الثنائي»، وعنها يقول: «عرِفت الحلقة في منطقة الحي المحمدي مجموعة تتشكل من ثنائي يقوم، إلى جانب التنكيت وإضحاك المتفرجين، بإنشاد قصائدَ زجلية بدوية أو «عيطات» معروفة، بواسطة آلة الإيقاع «الدف» وآلة عزف وتَرية. ورغم أن هذه المجموعات كانت متعددة فإنني أحتفظ في ذاكرتي بثنائي كان مشهورا، وهو «ثنائي الحسناوي» والشخص الرئيسي فيه -«الحسناوي»- ظل يمارس إلى عهد قريب، رغم أنني حضرتُ حلقته سنة 1960»... و اعتبر الحاج فوقار أن ما يميز هذا النوع من «الحلقات» هو «ارتباطها بالإيقاع الشعبي وبإنشاد مجموعة من الأزجال أو القوافي، وهي وإن لم تكن ترقى إلى مستوى الملحون، فإنها تستقي في معظمها ما يُنشَد عادة في الحفلات والأعراس بواسطة «الشيخات»، ويغتنم كل ثنائي الفرصة ليحكي عن موقف ساخر أو ينتقد حالة اجتماعية شاذة»... وأشار الحاج فوقار إلى أن «ثنائي الحسناوي» كان خلال عقد الستينيات مساحة شعبية مهمة في سوق الحلقة في الحي المحمدي: سخر من الشخص المتمدِّن المزيَّف الذي يتصنع الحضارة، وسخر من النساء المتحذلقات، وانتقد بشدة سلوك العاقين، إناثا وذكورا.. وعلى أي حال، فإن هذا النوع تطور إلى نوعين متميزين: نوع حافظ على تقليده على الشكل الذي أشرنا إليه، ولكنه لا يمارس الحلقة، بل يشارك في الأعراس والحفلات، وفي المناسبات، واشتهر من هذا النوع: «قشبال وزروال» و«قرزوز ومحراش»... إلخ. وهناك نوع خاص بالنكتة والتنشيط، يعتمد على كفاءته في الانتقاد والنكتة والسخرية، وبرزت فيه مجموعة من الطاقات، كالثنائي «باز وبزيز» و«الدسوكين والزعري» و«عاجل وفلان» و«ثنائي الصداقة»... إلخ»... يتبع