هناك معارك وثورات مشهورة في التاريخ السياسي للمغرب، بعضها يعرفه أغلب المغاربة، ولكن معظم تلك المعارك وخلفياتها و حيثياتها تخفى على الكثيرين ابتداء من الحرب التي قادها القائد الأمازيغي يوغرطة ضد روما، مرورا بحروب وثورات وقعت في العصور الوسطى، وانتهاء بمعارك العصر الحديث. ومن خلال هذه الرحلة عبر عدد من المعارك والثورات، تتوخى «المساء» أن تلقي الضوء على تلك المعارك والثورات، شخصياتها، وقائعها، وبالأخص تأثيرها على المسار السياسي للمغرب. لم تستطع فرنسا أن تخضع القبائل الثائرة إلا في حدود الثلاثينات من القرن الماضي، ولكن كان عليها أن تواجه نوعا آخر من المقاومة تجلى في بروز حركة وطنية يقودها شباب أبرزهم الزعيم علال الفاسي و محمد بلحسن الوزاني ومحمد اليزيدي و أبو بكر القادري وعبد الخالق الطريس والطيب بنونة و المكي الناصري و الفقهاء أبو شعيب الدكالي و محمد بلعربي العلوي وغيرهما من الزعماء. في البداية كان هؤلاء الزعماء يطالبون بالإصلاح، لكن موقفهم سيعرف تغييرا جذريا في سنة 1944، إذ أصبحوا يطالبون باستقلال عن الأيالة المغربية وبحريتها وأصبح الحزب الذي أسسه علال الفاسي يحمل اسم حزب الاستقلال. عندما اختار الفرنسيون من بين أبناء السلطان مولاي يوسف الأصغر سنا وهو محمد الخامس ملكا للمغرب، كان غرضهم من ذلك هو وضع ملك يمكن التحكم فيه دون معارضة، وكانت السياسة الفرنسية تسير في اتجاه إبعاده عن الشعب وعن الحركة الوطنية حتى يتسنى لفرنسا الحكم بكل أمان (يمكن للقارئ أن يطلع على تفاصيل أكثر بشأن مبايعة السلطان محمد الخامس في كتاب الفرنسي شارل أندريه جوليان «المغرب في مواجهة الإمبرياليات»). لكن انقلب السحر على الساحر. بحكم الممارسة السياسية و احتكاكه بزعماء الحركة الوطنية، بدأ السلطان الراحل يعي مخططات الاستعمار، وأصبح فيما بعد شوكة في حلق الاستعمار وشكل خطاب طنجة سنة 1947 نقطة تحول كبرى في مسار محرر المغرب من الاستعمار الفرنسي. يقول أندريه جوليان إن المرحوم محمد الخامس «عندما أدرك أهمية الظهير البربري الذي وقعه سنة 1930، قال للشاب علال الفاسي الذي حصل على شهادة من القرويين: لن أفرط على الإطلاق في أي حق من وطني. ووفى بوعده ولم ينحن إلا عند استعمال القوة». وكان السلاح الذي يمتلكه السلطان هو عدم التوقيع على قرارات كان يتخذها المقيم العام. وبدون توقيع فإن تلك القرارات لن تكون لها أي قيمة. وهو الأمر الذي اضطرت معه فرنسا يوم 20 غشت 1953 إلى نفي الملك الراحل محمد الخامس إلى كورسيكا في البداية و إلى مدغشقر فيما بعد، وعينت مكانه محمد بن عرفة بتواطؤ مع بعض القواد دالكبار وأبرزهم الباشا التهامي الكلاوي و بعض العلماء. وقد أشعل هذا القرار الخاطئ من قبل السلطات الاستعمارية نار المقاومة الشعبية، و نددت به دول عديدة, من بينها إسبانيا التي أنكر حاكمها الجنرال فرانكو تصرف فرنسا تجاه السلطة الشرعية بالمغرب. يقول دوغلاس أشفورد الباحث الأمريكي في العلوم السياسية في كتابه «التطورات السياسية في المملكة المغربية» «رفضت إسبانيا الاعتراف بالملك المزيف، ابن عرفة، واستمرت الخطبة تقام باسم محمد الخامس في صلوات الجمعة في الشمال وقد أدى نفي الملك إلى تنظيم مقاومة نشطة للفرنسيين، واتخذت المقاومة مدن تطوان و طنجة و الموانئ الساحلية في الشمال مراكز للتموين والتدريب والاتصال. وبعد انقضاء شهرين على خلع الملك، ووسط المظاهرات الشعبية الموالية له في تطوان، أعلنت القاهرة أن الطريس سيكون «زعيم حركة التحرير في المغرب بأسره». وفي الشهر الثاني استقبل المقيم والخليفة وحزب الإصلاح الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية بكل ترحاب. ولما خشيت فرنسا أن تعلن الانتهازية الإسبانية الخليفة نائبا للملك على حكومة مغربية في المنفى اتخذت بعض الاحتياطات الديبلوماسية والحربية. ومهما يكن من أمر فإن مثل هذا الإجراء قد جعل إسبانيا تتنحى عن موقفها، وانحصرت نتيجة الإثارة في إعلان المقيم العام عن عدم اعترافه بالخليفة نائبا للملك». على إثر نفي السلطان الشرعي إلى مدغشقر، اندلعت ثورة عرفت في التاريخ بثورة الملك والشعب، ووقعت أحداث مؤلمة دامية، كما شنت إضرابات شلت مختلف القطاعات الحيوية لاقتصاد البلاد, فضلا عن انطلاق شرارة العمليات المسلحة بمختلف مدن المغرب وبشكل خاص بمدينة الدارالبيضاء. وقتل خلال هذه العمليات شهداء أمثال علال بن عبد الله و محمد الزرقطوني وغيرهما. ولم تهدأ الأمور إلا عندما أحست السلطات الفرنسية بخطئها الكبير وقررت أن تعيد السلطان الشرعي إلى عرشه وشعبه، وكان ذلك بعد ثلاث سنوات قضاها الراحل محمد الخامس في المنفى رفقه أفراد عائلته الصغيرة، أما السلطان المزيف ابن عرفة فترك المغرب وعاش فترة في طنجة بحكم أنها كان لها وضع دولي، ولما استعادها المغرب، غادر طنجة في اتجاه مدينة نيس الفرنسية، وبقي في فرنسا إلى أن توفي عام 1976.