إذا كان الأدباء المغاربة، من فرط تواضعهم، لا يفاخرون أمام أقرانهم العرب بأنهم أصّلوا جنسا أدبيا، فإن المؤرخ المنصف لتاريخ الآداب المغربية لا بد من أن يقر بالريادة والسبق، بخصوص لون القصة القصيرة، للأديب أحمد عبد السلام البقالي الذي رحل عن دنيانا مساء التاسع والعشرين من يوليوز، عن سن تناهز الثامنة والسبعين، مع اختلاف في تاريخ ميلاده، بين 1930 أو 1932، على إثر تدهور مفاجئ وسريع في وضعه الصحي، أفقده القدرة على الحركة والكلام والتذكر. فقد بصمت قصصه القصيرة الأولى هذا الجنس الأدبي العصي، مع بداية خمسينيات القرن الماضي، حيث اكتملت أدواته الفنية في قصته الرائدة «نداء المجهول» التي ترجمت إلى لغات أجنبية، وصدرت ضمن المجموعة المميزة «قصص من المغرب»، إذ استوت فيها مبكرا شروط السرد القصصي الناضج وتجلت براعة القاص على بناء محكم للحكاية ورسم ملامح الشخصية المحورية في النص القصصي والغور في أعماقها والتقاط تفاصيل الواقع الاجتماعي في مغرب يتأرجح بين الإغراق في التقليد ومحاولات الانفتاح البطيء والحذر مع مطلع الخمسينيات، بلغة سلسة أخذت من الشعر جماليته ومن ألوان البلاغة ما قل ودل. والبقالي، الذي كان يدعى وهو صبي «ولد الفقيه» في مدينة أصيلة التي ولد بها، هو على الصعيد الثقافي نتاج موهبة لا شك فيها، من حظها أنها وجدت في مدينة تطوان التي انتقل إليها وهو تلميذ يافع لمتابعة الدراسة الثانوية منذ عام 1949، حيث وجد في تلك المدينة، الحمامة البيضاء، البيئة الثقافية التي طالما رنا إليها خياله وهو ببلدته الصغيرة. في تطوان، وهي عاصمة المنطقة الخليفية السياسية والثقافية بامتياز، تصدر بها الجرائد اليومية والمجلات الشهرية والأسبوعية التي فتحت صفحاتها للموهبة القادمة من أصيلة لتعزز أصوات طائفة من الكتاب الشباب، حركوا المشهد الأدبي، أمثال الراحل محمد العربي الخطابي والشاعر محمد الطنجاوي ومحمد العربي المساري وآخرين. توالت الجوائز الأدبية على الراحل البقالي طوال حياته، فحيثما يشارك، ناشئا أو راسخ القدم، يأتيه النبأ والحظ السعيد. وربما شكل السعي وراء المكافآت المعنوية قبل المادية أحد الأسباب التي جعلت الراحل يطرق أبواب أغلب الألوان الأدبية، فإضافة إلى القصة القصيرة التي أجاد فيها بإجماع الدارسين، طرق البقالي باب معبد الشعر، فآواه وأصبح من سدنته، ثم جرب حظه في فترة لاحقة من مساره الإبداعي مع الرواية، فترك عناوين فيها، بل دفعته حمى الريادة والسبق التي سكنته وهو فتى إلى مغامرة كتابة رواية الخيال العلمي، في بيئة مغربية لم يكن لها باع في التكنولوجيا بداية السبعينيات من القرن الماضي، حيث تذكر الأجيال المسلسل الإذاعي «الشعاع الأزرق» المأخوذ عن رواية بنفس الاسم حملت توقيع البقالي الذي عاد لتوه من الولاياتالمتحدة حيث كان يشغل وظيفة الملحق الثقافي بسفارة المغرب في بلد العام سام، وفيها درس بجامعتها (كولومبيا) ونال دبلوما في علم الاجتماع. ولأمر ما، لم ينل البقالي ما كان جديرا به من شهرة وإقبال واسعين من لدن جمهور القراء وكذلك من النقاد المغاربة، والراجح أنه صعب على هؤلاء تصنيفه ضمن خانة أدبية محددة، فتحت جلبابه تجاور القاص والروائي والشاعر وكاتب كلمات الأغاني والتمثيليات الإذاعية، فضلا عن المقالة الصحافية التي كان أحد فرسانها غير المعلنين، فقد حرر الأعمدة الصغيرة بأسماء مستعارة، لعل أشهرها، حسن الشريف، الذي تعامل به مع جريدة «العلم». أمام موهبة لا جدال فيها، احتار قراء البقالي، باستثناء الدارسين والمهتمين في الصفة التي يمكن أن يطلقوها عليه، بل أستطيع القول، بما يلزم من الحيطة، إن بعثرة الراحل لجهوده بين شتى ألوان الكتابة ضيع عليه وعلى الأدب التفوق المطلق في لون من الإبداع، وهو ليس فريدا في هذا المسار، ومن النادر أن يحافظ المبدع على الرقم القياسي في سباق الرياضات الأدبية إذا انخرط في سباقات عدة في ظرف متقارب. هذه الملاحظة لا تنقص أبدا من قدر وقيمة الرجل في سجل الأدب المغربي، فقد ترك إنتاجا أدبيا غزيرا، استطاع أن يوفق فيه بين الوفرة والحد اللازم من الجودة. هناك عامل آخر، يتمثل في أن البقالي ظل زمنا متواصلا خارج المغرب.. فمن القاهرة سافر إلى أمريكا ثم إلى لندن، قبل العودة النهائية في السبعينيات. غياب لم يمكنه من نسج علاقات واسعة مع النقاد والمشتغلين بالثقافة في فترة هيمنت فيها الأفكار اليسارية على الساحة الثقافية في المغرب. ولعل المفارقة المثيرة حقا في حياة البقالي، وهو الموظف الرسمي، أنه اعتز دائما بالانتساب إلى حومة المثقفين وتعامل مع الأدباء المغاربة بكثير من اللطف والكياسة، مع أن كثيرين منهم كانوا ينظرون إليه بنوع من التوجس والريبة، بسبب وظيفته التي أدخلته إلى القصر، مكلفا بمهمة في الديوان الملكي في عقد السبعينيات من القرن الماضي، حيث ظهر في بعض الأوقات يترجم للملك الراحل الحسن الثاني من اللغة الإنجليزية التي كان يجيدها، وعنها ترجم بعض النصوص الأدبية وخاصة لصديقه الراحل محمد أبوطالب، الذي لم ينجح هو الآخر في نيل الرضى التام كمترجم من الملك الحسن الثاني. وعلى خلاف بعض المثقفين الذين وجدوا أنفسهم داخل باحة القصر، فقطعوا كل صلة بماضيهم التقدمي، لم يتنكر البقالي لأصدقائه أو أشاح بوجهه عنهم في الطريق، بل كان يصافح المعارضين والتقليديين الرسميين، بنفس الحفاوة. وهنا، أرى من واجبي الإدلاء بشهادة في حق الرجل تدل على تمييزه بين وظيفته الرسمية وصفته ككاتب حريص على استقلال رأيه وحريته وإقامة مسافة بينه وبين المتزلفين للسلطة. كان المؤتمر الخامس والعاصف لاتحاد كتاب المغرب، بمدارس محمد الخامس في ربيع 1973، المناسبة الفريدة التي كشفت بعض الوجوه المتسترة بقناع الوطنية، ولكنها في لحظة الحسم انحازت إلى صف السلطة التي أرادت الإجهاز على هيئة الكتاب المغاربة، ذات الثقل المعنوي الوازن في تلك السنة الحالكة من تاريخ المغرب، حيث تمت اعتقالات واسعة في صفوف الاتحاديين، وتم تنفيذ حكم الإعدام في ضباط سلاح الجو الذين حاولوا إسقاط طائرة الملك الحسن الثاني، أثناء رحلة العودة من فرنسا يوم 16 غشت 1972. في ذلك المؤتمر، انشطر الأعضاء المؤتمرون إلى جمعين: موال للسلطة يأتمر بأمرها ويتلقى التعليمات الكفيلة بعرقلة سير المؤتمر، في مواجهة جمع المتشبثين باستقلالية المنظمة ورفض أي إملاء. وفي لحظة من الصراع المحتدم، انقسم الأعضاء إلى صفين، بينهما مسافة فارغة. وأشهد أن البقالي جلس بمحاذاة الصف الوطني، على مسافة من صف مثقفي السلطة. وأذكر أني سألته عن رأيه في ذلك المشهد الغرائبي، فأجابني مستنكرا بانفعال لازمه طوال حياته: «إني هنا بصفتي عضوا في اتحاد الكتاب، وليس كموظف في الديوان الملكي». ذلك التوزع بين الولاء للسلطة والانقياد لإغراء الأدب ضيّع على البقالي مجدا سياسيا، كان يطمح إليه في أعماق نفسه، مع أنه لم يكن لاعبا ماهرا في ساحة العمل السياسي والحزبي، وربما ظن أن سجله الأدبي الحافل كان يؤهله لتقلد أسمى الوظائف. ويبدو أن حزنه أو خيبته كانت عظيمة حينما تم التراجع عن تعيينه سفيرا في مدريد في عقد الثمانينيات من القرن الماضي، على إثر اعتراض دبلوماسي مؤدب من إسبانيا، حسبما راج في ذلك الوقت، مفاده أن منصب السفارة يتطلب دبلوماسيا بمواصفات أخرى لا تتوفر كلها في الأديب البقالي، بل تساءلت بعض الألسن «كيف لأديب مختص في الكتابة للأطفال أن يكون سفيرا بمدريد؟». لم تعط للرجل الفرصة لكي يثبت مهارته الدبلوماسية، لكن المؤكد أن الإحساس بأن المنصب سحب أو سرق منه، ظل يلازمه. لم يدرك، وهو القريب من مصدر القرار، أن الحسم في مثل تلك المناصب لا يخضع دائما للاعتبارات الوظيفية والإدارية التقليدية. حرمان البقالي من سفارة مدريد عوض عنه بالمزيد من الإنتاج الإبداعي، فراكم الجوائز، وظل قريبا من المشهد الثقافي المغربي، منتجا وقارئا ومطلعا ومشاركا. ومن صدف الأقدار أن تنهار صحته بشكل متسارع وهو المعتني بمظهره وصحته والمبتعد عن «وسائل التدمير الشامل» في هذه الحياة الفانية. ليرحمه الله رحمة واسعة، فقد كان علامة أدبية منيرة، وما هذه إلا لحظات من حياة حافلة.