أصيلة مزيج غريب من كل شيء. هي بلدة صغيرة تجاوز اسمها حدود القارة، وهي أيضا مشروع مدينة كبيرة في يوم ما، والدليل على ذلك تلك المناطق الشاطئية التي توجد قربها، والتي تعرف حركة بناء دائبة لإقامة بنايات ومشاريع من أجل استثمار زرقة هذا البحر مترامي الأطراف. وفي منطقة قريبة من «نادي الرماية» على الطريق بين طنجة وأصيلة، تقوم شاحنات كثيرة برمي الأتربة في سهل منبسط أخضر على حافة واد مهدد بالاندثار. طنجة ضاقت بما رحبت، فقرر وحوش العقار الزحف نحو أصيلة. في أصيلة أشياء غريبة لا توجد في غيرها من المدن. هناك حديقة كاملة تحمل اسم الطيب صالح، الكاتب السوداني الذي ارتبط اسمه برواية «موسم الهجرة إلى الشمال»، والذي ظل حوالي ثلاثة عقود يرتاد أصيلة كل موسم ثقافي حتى غادر إلى دار البقاء وحملت اسمه حديقة. هذه الحديقة كانت مصلى للزيْلاشيين، وفيها أدى الطيب صالح صلاة أول عيد حضره في أصيلة، فذهب صالح والمصلى وبقيت الحديقة، التي حين يمر أحد قربها يعتقدها قبرا كبيرا لأنها فارغة أغلب الوقت ويلفها صمت مثير. الشاعر الفلسطيني محمود درويش أطلق اسمه أيضا على مكان آخر من أصيلة، تذكرة للأحياء بالموهبة الفذة لذلك الشاعر الفذ، وأيضا تذكيرا بزوال حتمي لحياة زائفة. من أصيلة مر آخرون هم اليوم في دار البقاء. فالكاتب الراحل محمد شكري كان في سنوات عمره الأخيرة يحلم بأن يغادر طنجة ويسكن أصيلة. لقد «تسيّفت» عليه طنجة ولم يعد يطيق ضجيجها ومسوخاتها المستمرة، غير أن الموت أعد له مقلبا آخر، ومات فجأة وسكن تلك الربوة العالية في مقبرة «مرشان». وفي ندوة نظمت قبل أيام، تحدث المجتمعون في موسم أصيلة الثقافي عن الراحل محمد عابد الجابري، ووعد المنظمون بإطلاق اسم المفكر الراحل على أحد شوارع أصيلة. في أصيلة أشياء أخرى لا يمكن العثور عليها في مدن مغربية أخرى. ففي شارع ابن رشد، على بعد أمتار من الشاطئ، توجد مقاه ومكتبات ومنازل أنيقة على الطراز المحلي، وفي وسط الشارع توجد بناية غريبة بسور عال عليه سياج من أسلاك شائكة وعلم وجهاز اتصال لاسلكي. إنه سجن، مع أن لا أحد يتوقع أن يوجد سجن في هذا المكان، لأن سجون العالم كلها توجد في أماكن قصية وبعيدا عن المدن أو في جزر معزولة، لكن سجن أصيلة يجاور المنازل والمقاهي، حتى لو أن ربة بيت طبخت سمكا في مطبخها، ستصل بالتأكيد رائحة ذلك السمك إلى السجناء. لكن السؤال المحير هو لماذا وضعت أسلاك شائكة على السور؟ هل سيجرؤ سجين على الهرب من هذا المكان؟ ربما.. فالسجن سجن وإن علت به السحب. ليست كل الأشياء رومانسية إلى هذا الحد في أصيلة. هناك مثلا نادل مقهى يأتيك بخبز محترق لكي تفطر، وحين تحتج وتتوجه إلى مقهى آخر، يتبعك ويطلب منك أن تؤدي ثمن ذلك الخبز حتى لو لم تأكله. هناك أيضا الصحافيون الذين جاؤوا إلى هذه المدينة لتغطية مهرجانها الثقافي، وكثيرون يظهرون في قاعة الأكل أكثر مما يظهرون في قاعة الندوات. إنهم يعتبرون حضورهم تشريفا للمهرجان، لذلك يقررون تغطية أجسادهم بأشعة الشمس في شواطئ المدينة عوض أن يغطوا فعاليات المهرجان. عندما بدأ موسم أصيلة الثقافي قبل أزيد من 30 عاما، كان هناك جدل حقيقي بشأنه بين مثقفي ما كان يسمى باليسار، وبين منظميه الذين فتحوا أبوابه أمام الجميع ورفعوا شعار «من شاء فليدخل ومن شاء فلينكص». ومع مرور السنوات أصبحت أغلب وجوه اليسار من كتاب ومفكرين تضرب موعدا سنويا في هذه المدينة الصغيرة. ومع مرور المواسم صار كثيرون لا تحلو لهم الكتابة إلا هنا، حتى أصبح هناك تيار ثقافي يمكن تسميته ب«تيار أصيلة»، لأن حلاوة الكتابة كانت تبدو استثنائية في مطعم وحانة «بيبي»، هذا الإسباني الزّيْلاشي الذي استقطب من المثقفين أكثر مما استقطبتهم إدارة المهرجان الثقافي، ووضع على موائدهم أحلى وسائل الكتابة والنقاش، إلى درجة أنه يمكن أن يطلق عليهم «تيار بيبي» عوض «تيار أصيلة». الجدل حول موسم أصيلة الثقافي انتهى اليوم، والذين جاؤوا إلى المدينة في أول موسم، وهم في الثلاثين يقفزون نشاطا وحيوية، هم اليوم فوق الستين وقد انحنت ظهورهم وصاروا ينظرون إلى الأرض أكثر مما ينظرون إلى السماء. لقد نضجت أصيلة بما يكفي ولم تعد نقطة قوتها الوحيدة هي تلك الندوات والمناقشات الراقية، بل أيضا صارت مدينة تمنح الآخرين حكمة مختلفة، حكمة أن تستضيف مثقفين وكتابا وباحثين في قاعات مكيفة الهواء، وحكمة أن تطلق أسماء الأموات منهم على شوارعها وحدائقها، والرسالة واضحة وهي أن كل شيء إلى زوال، ولا يبقى إلا وجه ربك ذي الجلال والإكرام.