استضاف برنامج «ليالي صيفية» على أثير إذاعة «راديو بْليسْ-مراكش»، ليلةَ أول أمس السبت 24 يوليوز، الفنّانَ المقتدر عبد الهادي بلخياط، للحديث عن مساره الغنائي الطويل وعن حقيقة اعتزاله الغناء، كما راج ذلك، مؤخرا في الصحافة الوطنية... في بداية الليلة الصيفية، تحدث الفنان الكبير عن ولادته ونشأته في مدينة فاس، وسط عائلة محافظة عارضت، بقوة، اختيارَه اقتحامَ عالَم الغناء.. لم يَلِنْ موقف العائلة قليلا إلا بعد أن أبدع في أداء أغنية «يا قاطعينْ الجْبالْ»، ليبدأ بعدها مسارُ التميُّز والتألُّق وتتوالى الروائع الفنية، التي شكّلتْ لبنةً أساسية في ريبرطوار الأغنية المغربية العصرية، كرائعة «يا داكْ الإنسانْ»، «قطار الحياة»، «ماتاقْشي بيّا»، «المَُنْفرجة» وغيرها... وبخصوص مسألة اعتزاله الغناءَ، ذكَر بلخياط أن «كل ما في الأمر أنني تحدّثتُ عن كوني سأعتزل أداء الأغاني العاطفية، بينما سأستمر في الأغنية الدينية والاجتماعية.. إلا أن «بعض الإخوان» زادوا الطين بلّة»... وحمَّلوا تصريحاته ما لا تحتمل- كما جاء في معرض حديثه للإذاعة المذكورة- لتنطلق بعد ذلك «حملة» على بعض المنابر الإعلامية، التي سارت في اتجاه تأكيد اعتزال الفنان الكبير عالَمَ الغناء، ككل... ويواصل مبدع «المنفرجة» حديثَ الشجون عبر ميكروفون «راديو بْليسْ»، قائلا إن الإنسان، بصفة عامة، تواجهه عقباتٌ كثيرة وكبيرة في حياته، فهناك مَن يحبُّك ويدْعمُك ويمُدُّ لك يدَ العون.. وهناك، بالمقابل، من يكرهك ويتربّص بكَ الدوائر، في كل وقت وحين... إلا أن أهم شيء بالنسبة إلى الفنان، يقول بلخياط، هو العمل الجادّ والصادق، الذي سيُوتي أكلَه -حتماً- في نهاية المطاف... وعن تفاصيل اشتغاله على أعماله، ذكر بلخياط أنه يحرص في كل قطعة من القطع التي أداها إلى دراستها جيدا، قبل الإقدام على تسجيلها، ضارباً المثل بأغنية «قطار الحياة» التي «اشتغلتُ عليها 10 سنوات قبل إخراجها»، يقول الفنان الكبير، مذكِّراً بكونه عاش في بيئة أُسَرية تضم العديد من العلماء (ذكَر منهم العالِم أحمد بلخياط)، بينما كان هو الوحيد الذي اختار ولوج عالَم الألحان والكلمات.. لذلك يقول بلخياط «بمجرّد ما تذكّرتهم عدتُ»!... وعن واقع الوسط الفني الحالي، قال الفنان الكبير، بلغة تقطر مرارة وسخرية: «لقد اختلط «الهابيلْ ب»القابيلْ» (الحابل بالنابل..) فقد كان كل شيء يسير على ما يُرام في الوسط الغنائي، الذي كان يُدوِّن «تموُّجات» الكلام.. كان هناك إيثار وتعاون، وكان المنتمون إلى هذا الميدان يشكِّلون أسرة واحدة لم يكن فيها فرق بين كاتب الكلمات والعازف والملحِّن والمغنّي.. «صحيحٌ أنه لم تكنْ هناك مكاسبُ كبيرة إلا أن كل شيء، رغم ذلك، كان جميلاً»... وبخصوص ضُعف المكسب المادي، ذكر بلخياط أنه سجَّل رائعتَه «القمر الأحمر» ب«25 ألفْ فرنك» (250 درهماً) لا أكثر.. أما بقية الأغاني فلم يكن يتقاضى مقابل تسجيلها أكثرَ من 100 درهم للأغنية الواحدة!... كما ذكر أن عبد السلام عامر تلقى 350 درهماً، بزيادة 100 درهم عن مغنّيها، «ربما لأنه بذل مجهودا إضافيا في التلحين»، يقول بلخياط، مسترجِعاً زمناً بعيدا لم تكن فيه المكاسب الماديةُ ما يهم، بل الإبداع الصادق والأداء الجميل، مما أفرز روائعَ بقيتْ خالدة في الذاكرة الجماعية لعشاق الأغنية المغربية الأصيلة... ويتابع ضيف «ليالي صيفية» حديثَه عن «أمس» الأغنية المغربية و«حاضرها» ساخراً من غرابة المفارَقة: «في الماضي، حيث لم تكنْ هناك أموال كثيرة، استطاع لفيفٌ من الأسماء المتميزة، كمحمد فويتح، المعطي بنقاسم، إسماعيل أحمد وغيرهم، بفضل تضحياتهم الجسام، أن يصنعوا العصرَ الذهبيَّ لهذه الأغنية، بينما حاليا، ورغم كل الأموال المرصودة، فإن الفن قد فقَد روحَه وهويتَه وقد أضحت هذه الروح هي الأموال بالذات»!... وشنَّ عبد الهادي بلخياط هجوما لاذعا على صُنّاع «النجومية الزائفة»، الذين ينتجون لأحدهم ألبوما يضم ست أغانٍ (دون التوقّف كثيرا عند مستوى هذه الأغاني..) ثم يعلنون عن ميلاد «نجم» سرعان ما يجد نفسه -أمام انعدام فرص الاستمرار- مرغَما على الغناء في الكباريهات، كما حدث لذلك الشاب (اللّي جابوهْ منْ الطالْيانْ!)، يقول بلخياط... وألقى مبدع «يا داكْ الإنسان» باللائمة على الصحافة، التي «تصنع» نجوما وهميين، سرعان ما تتخلى عنهم، كما يتخلى عنهم المنتِجون والمحتضِنون الذين كانوا يحيطون به في بداية مساره الفني، ليجد «النجمُ» نفسه، فجأة، أمام واقع مُرٍّ قد يصل به حدَّ الغناء في أماكن قد لا تكون خطرتْ له على بال، في يوم من أيام «حلمه» الجميلة، التي تنقلب «كوابيسَ» حقيقية، في الكثير من «الحالات»!...