أثيرت، في الشهور الأخيرة، مسألة الأزمة المالية التي تجتازها القناة الثانية، في ضوء العديد من الوقائع والمؤشرات المقلقة.. وهي الأزمة التي وجدت تمظهرها في الخفض الحاد من وتيرة الإنتاج الداخلي وتجميد الأجور وتأخير صرف مستحقات المشتغلين في «صورياد».. واقع يجعل طرح السؤال حول خلفية هذه الأزمة أمرا مُلحّاً، لفهم ما يحدث بين دواليب قناة عين السبع. لفهم الأزمة الحقيقية للقناة الثانية، لا بد من استرجاع صيغة تأسيسها وملابساتها وتفكيك معطيات الأزمة، إذ تأسست القناة الثانية الدولية في العشرين من شهر فبراير من سنة 1988، رغبة في دعم ملف ترشيح المغرب لاحتضان كأس العالم لسنة 1994، وفق صيغة عقد «تدبير مرفق عمومي»، على أساس أن الفضاء السمعي -البصري المغربي كان مرتبطا بصيغية ظهير 1924 التي تنص على احتكار الدولة للبث وعدم خوصصة القطاع. واستند المسؤولون في تعليل قبول دخول رساميل الخواص على روح المادة الثالثة من الظهير، التي تعطي الحق للمكتب الوطني للبريد في منح البث للقطاع الخاص وفق عقد التدبير. وفق هذه الصيغة، تم التوقيع بين وزير الإعلام ادريس البصري وفؤاد الفيلالي، رئيس مجموعة «أونا» وأول مدير عام للقناة الثانية، على عقدة تدبير لمدة عشرين سنة، وظهرت القناة الثانية الدولية أو الشركة المغربية للإخراج والدراسات السمعية البصرية، المعروفة اختصارا ب«صورياد»، برأسمال تملك فيه الشركات الوطنية الأغلبية (البنك المغربي للتجارة الخارجية، أونا، البنك المغربي للتجارة والصناعة) إلى جانب متعهدين أجانب، من بينهم «تي إف1»، مجموعة «فيديوتروم»، الكندية، «سوفيراد»، الفرنسية.. بعد وضع السياق القانوني لإطلاق أول قناة شبه خاصة «دوزيم الدولية»، وضع المساهمون في المخطط الاستثماري خطة عمل للوصول إلى رقم 250 ألف صاحب جهاز تشفير، إلا أن الرقم لم يتجاوز 180 ألف منخرط، وهو الرقم الذي انخفض بشكل تدريجي، ليصل في النهاية إلى 90 ألفا.. لعدة اعتبارات، أولها قرصنة جهاز التشفير، وثانيها استفادة أسر عديدة من خدمات الجهاز الواحد، فضلا عن عدم تناغم مبلغ الانخراط مع القدرة الشرائية للمواطن في تلك الفترة.. وعلى الرغم من سن قانون يجرم قرصنة الجهاز، فإن طموح المسؤولين باء بالفشل، مما أدخل القناة، في ضوء تراجع عائدات المستشهرين وضيق الاستفادة من حصة الإشهار، بالنظر إلى محدودية حصة المشاهدة، في أزمة مالية خانقة. أزمة مالية وضعت الدولة أمام خيارين: إما بيع القناة لمتعهد خاص جديد، وفق صيغة تدبير المرفق العمومي، وهو أمر شبه مستحيل،.. وإما تدخل الدولة ل«إنقاذ» القناة وإعادتها فعليا إلى القطاع العام، وهذا ما تحقق سنة 1995، بعدما اشترت الدولة ما يقارب 75 في المائة من الأسهم، فتشكل المجلس الإداري للقناة الذي أصبحت الوزارة ذات الصلة ممثَّلة فيه مع من «أصرَّ» من القطاع الخاص على البقاء في رأسمال القناة.. ولتسويغ التأمين القسري ل«دوزيم»، قال ادريس البصري إن القرار جاء للمحافظة على التعدد في المجال الإعلامي، دون أن يقبل أن تعدد الإعلام لا يكون عدديا، وإنما بتشجيع مختلف التيارات على الحضور في هذا الإعلام... هذه الصيغة القانونية الجديدة خولت للقناة الاستفادة من دعم الدولة، عبر صندوق دعم السمعي -البصري، إلى جانب تقاسم السوق الإشهارية مع القناة الأولى. وفق هذه الصيغة التمويلية -الإنقاذية، استمرت القناة، إلا أنه مع بروز الأزمة المالية وما واكبها من انخفاض مؤثر للإشهار ودخول محطات فضائية عربية على خط التنافس، برزت الأزمة المالية من جديد، وبدأ الحديث عن ضرورة توقيع «دوزيم» العقدَ -البرنامج مع الدولة والذي يمنح القناةَ صيغة قارة للتمويل، وهو ما وعدت به الدولة بعدما جرى الحديث عن تخصيص 25 مليار سنتيم للقناة لمدة أربع سنوات.. ومع عدم إفراج الحكومة عن قيم العقد إلى حد الساعة، دخلت القناة في نفق الأزمة المالية من جديد، مما جعل البعض يردد فرضية «الإفلاس» أو بيعها وإعادتها إلى الخواص، لوجود الصيغة القانونية لاشتغال القطاع الخاص، وهي الأزمة التي تثبت سيرورة نشأة وتأميم القناة الثانية ودخولها في مسلسل الدعم والعقد –البرنامج. إنها أزمة بنيوية لم تكن، بالمطلق، رهينة أسباب ظرفية طارئة وليدة اليوم...