قال ابن الجوزي رحمه الله: «وما زال العلماء الأفاضل يعجبهم الملح ويهشون لها لأنها تجم النفس وتريح القلب من كد الفكر».. ففائدة النوادر والطرائف والفكاهات عظيمة فهي مبعث على دماثة الخلق، وصفاء في الذهن، وأريحية مستفيضة، فإذا استقصينا نوادر الخلفاء والأمراء والولاة وجدنا أنفسنا إزاء كنز لا تحصى جواهره، وتعرّفنا من خلال ذلك الاستقصاء على حِكَم وعِبَر ودروس في الدين والدنيا، تجلب للنفس الأنس والمرح... في هذه المجموعة، جزء من هذا الكنز الأدبي الذي يضم أجمل ما وقعت عليه طرائف الخلفاء والأمراء.. هذه الباقة لطيفة، جميلة مؤنسة، ملونة بألوان مُشْرقة، واحة تستظل بها النفس من قيظ الصيف... طرائف الأعشى في جلسات الأمراء
يروى أن قوما كانوا مدعوين عند أحد خلفاء بنو العباس، فدخل عليهم أشعب الطفيلي، وكان رجلا طريفا وجشعا، فقال: السلام عليكم أيها اللئام ! فقالوا: لا والله بل كرام، فقال: اللهم اجعلني كاذباً واجعلهم صادقين، فجلس معهم وبدأ في الأكل وهو يقول: ماذا تأكلون؟ ! قالوا: سماً، قال: العيش بعدكم لا طعم له، هذا وهو لم يتوقف عن الأكل، فسألوه: يا رجل أتعرف أحدا منا؟ ! فأجابهم: أعرف هذا، وأشار إلى الطعام. وعنه أيضا أنه مر بديار أحد الأغنياء فسأل طعاما، فسمعه يقول لخادمه: قل لقنبر يقول لجوهر يقول لياقوت يقول لهذا السائل: يفتح الله عليك.. فرفع السائل يده وقال: يا رب، قل لجبريل يقول لإسرافيل يقول لعزرائيل يقبض روح هذا البخيل. عبد الملك بن مروان والموالي دخل عطاء بن أبي رباح وهو من الموالي علي عبد الملك بن مروان، وهو جالس على السرير وحوله الأشراف وذلك بمكة في وقت الحج في خلافته، فلما بصر به عبد الملك قام إليه فسلم عليه وأجلسه معه علي السرير وقعد بين يديه وقال: يا أبا محمد: حاجتك؟ قال: يا أمير المؤمنين اتق الله في حرم الله وحرم رسوله، فتعاهده بالعمارة، واتق الله في أولاد المهاجرين والأنصار فإنك بهم جلست هذا المجلس، واتق الله في أهل الثغور فإنهم حصن المسلمين وتفقد أمور المسلمين فإنك وحدك المسؤول عنهم، واتق الله فيمن على بابك فلا تغفل عنهم، ولا تغلق دونهم بابك، فقال الله أفعل، ثم نهض وقام، فقبض عليه عبد الملك، وقال: يا أبا محمد إنما سألتنا حوائج غيرك فما حاجتك؟ قال: مالي إلى مخلوق حاجة ثم خرج، فقال عبد الملك هذا وأبيك الشرف، هذا وأبيك السؤدد. الحجاج والأسرى.. عرض على الحجاج يوما أسرى من المسلمين لقتلهم، فقال:من أقر أنه كافر تركناه ومن لم يقر قتلناه. فجاءه شيخ، فقال له:أكافر أنت أم مسلم؟ قال الشيخ: أتخادعنى عن نفسي يا حجاج؟ والله لو كان هناك شيء أعظم من الكفر لرضيت به، فضحك الحجاج وعفى عنه. ثم عرض عليه رجل فسأله الحجاج: أكافر أنت أم مسلم؟ فقال الرجل:على دين إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين. فأمر به فقتلوه. ثم جاءه رجل آخر فعرض عليه نفس السؤال فقال له:على دين أبيك يوسف الثقفي، فقال الحجاج: والله لقد كان صواما قواما، وعفا عنه. فجاءه الرجل بعد ذلك وقال له: عندما سألت صاحبي عن دينه قال لك:على دين إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين، فقتلته. وعندما سألتني قلت لك:على دين أبيك، فقلت أما والله لقد كان صواما قواما، فعفوت عني، والله لو لم يكن لأبيك ذنب غير أنه أنجبك لكفاه. والي الحجاج والأعرابي يحكى أن أعرابيا ورد على أحد ولاة الحجاج وكان الأعرابي من بلد ذلك الوالي فقدم إليه الوالي الطعام وكان إذ ذاك جائعا، فسأله الوالي عن أهله وقال: ما حال ابني عمير؟ قال: على ما تحب، قد ملأ الأرض رجالا ونساء. قال: فما فعلت أم عمير؟ قال: صالحة أيضا. فقال: فما حال الدار؟ قال: عامرة بأهلها قال: وكلبنا إيقاع؟ قال: قد ملأ الأرض نباحا قال: فما حال جملي زريق؟ قال: على ما يسرك. ثم التفت الوالي إلى خادمه وقال: إرفع الطعام فرفعه! ولم يشبع الأعرابي!ثم أقبل عليه الوالي يسأله؟ وقال: يا مبارك الناحية أعد ماذكرت. قال: سل عما بدا لك. قال: فما حال كلبي إيقاع؟ قال: مات!قال: وما الذي أماته؟ قال: اختنق بعظمة من عظام جملك زريق فمات!قال: أو مات جملي زريق؟ قال: نعم! قال: وما الذي أماته؟ قال: كثرة نقل اللبن إلى قبر أم عمير! قال: أو ماتت أم عمير؟ قال: نعم!قال:وما الذي أماتها؟ قال: كثرة بكائها على عمير!قال: أو مات عمير أيضا؟ قال: نعم!قال: وما الذي أماته؟ قال: سقطت عليه الدار!قال: أسقطت الدار؟ قال: نعم!فقام الوالي له بالعصى ضاربا فولى بين يديه هاربا. الحجاج والشبان الثلاثة أحضر رجال الشرطة في إحدى الليالي ثلاثة شبان من السكارى إلى الحجاج، فنظر إليهم فوجدهم يختلفون عمن سبقهم من العصاة والسكارى، إذ إنهم كانوا ذوي لباس أنيق حسن وتبدو عليهم آثار العز والكرم والأصل الطيب والنعمة والأدب. فقال الحجاج للشاب السكران الأول: من أنت؟ وابن من أنت؟ فقال هذا الشاب: «أنا ابن من دانت الرقاب له ما بين مخزومها وهاشمها تأتيه بالرغم وهي صاغرة يأخذ من مالها ومن دمها، فقال الحجاج للشرطة: أتركوه حتى الصباح فلربما أن يكون أحد أقارب الخليفة. وقال الحجاج للسكران الثاني:من أنت؟ ومن أبوك، فأجاب:أنا ابن الذي لا تنزل النار قدره وإن نزلت يوما فسوف تعود ترى الناس أفواجا إلى ضوء ناره، فمنهم وقوف حولها وقعود. فقال الحجاج لرجال الحرس: أتركوه حتى الصباح فلربما يكون من أقارب حاتم الطائي أشهر كرماء العرب الأقدمين. ثم نادى الحجاج على السكران الثالث وسأله نفس السؤال: من أنت ومن أبوك؟ فأجاب: أنا ابن الذي خاض الصفوف بسيفه وعالجها بالحزم حتى استحلت يروح ويغدو ناشرا لعجاجها وإذا ما بدا خلف الصفوف تولت، فقال الحجاج للشرطة: اتركوا هؤلاء الثلاثة، ثم أحضروهم لي في الصباح لنرى ما في أمرهم. وفي الصباح صحا السكارى وعاد إليهم رشدهم، ولما مثلوا أمام الحجاج قال للأول فسر يا أيها القائل أنا ابن من دانت الرقاب له. من أنت؟.. فقال إن أبي حلاق. فعلا الحلاق يأخذ من مال الناس ومن دمهم. أما السكران الثاني فقال: إن أبي صاحب مطبخ ومطعم، وفعلا الناس حوله قيام وقعود. أما الثالث فقال (أنا ابن الذي خاض الصفوف بعزمه) فإن أبي صاحب محل للغزل والنسيج، يرتب خيوط القطن ويصففها وينظمها. بعد إن استمع الحجاج إلى قصتهم ونسبهم، ضحك ضحكة عالية وعرف أن هؤلاء الشباب قد أنقذهم أدبهم من القتل، فنظر إلى الحراس وقال لهم :كن ابن من شئت واكتسب أدبا/يغنيك محموده عن النسب، إن الفتى من يقول ها أنا ذا/ليس الفتى من يقول كان أبي. وسأل الحجاج أعرابيا كهلا تزوج على كبر سنه، فعاتبه على مصير أولاده القادمين، فقال: أبادرهم باليتم قبل أن يبادروني بالعقوق. فضحك الحاج حتى استلقى على ظهره، فأمر له بجائزة. الأسود الدؤلي والفضولي الجائع وقف أعرابي على أبي الأسود الدؤلي وهو يتغذى فسلم فرد عليه، ثم أقبل على الأكل، ولم يعزم عليه. فقال له الأعرابيّ: أما إني قد مررت بأهلك. قال كذلك كان طريقك. قال وامرأتك حبلى. قال كذلك كان عهدي بها. قال قد ولدت. قال كان لا بد لها أن تلد. قال ولدت غلامين. قال كذلك كانت أمها. قال مات أحدهما. قال ما كانت تقوى على إرضاع اثنين. قال ثم مات الآخر. قال ما كان ليبقى بعد موت أخيه. قال وماتت الأُم: قال حزنا على ولديها. قال ما أطيب طعامك. قال لأجل ذلك أكلته وحدي والله لا ذقته يا أعرابي.