عاش الجواسيس في خيال الناس كشخصيات وهمية ساحرة منذ فترة طويلة، فمن منا لم ينبهر بشخصية الجاسوس الشهير جيمس بوند ولم يتابع أفلامه بشغف شديد، ولكن هل يعرف الناس، على وجه اليقين، شيئاً عن حياة هؤلاء الأفراد الذين اختاروا «الفن القذر»، خاصة أن الخيانة لديهم تنبع من معين الجشع والطمع وحب المال وضعف النفس ووهن الإيمان وغياب الولاء والانتماء والسعي لإرضاء الشهوات والوقوع فريسة للنزوات.. دون أن يقروا بمبدأ الرحمة ولا نداءات الضمير الذي قد يستيقظ فيهم أحيانا. إنه عالم غريب يفتقر إلى العواطف ولا تصنيف للمشاعر تحت سمائه وفي دهاليزه المظلمة الغامضة. إنه عالم تستهوى فيه العقول على اختلاف مداركها وثقافاتها..عالم تقتحم فيه عوالم غريبة غامضة تضج بعجائب الخلق وشذوذ النفس.. عالم متوحش الأذرع، عديم الصفاء، لا يقر بالعلاقات والأعراف ولا يضع وزنا للمشاعر، نسيجه دائما قوانين لا تعرف الرحمة، أساسها الكتمان والسرية والجرأة، ووقودها المال والنساء والشهوة.. عالم يطوي بين أجنحته الأخطبوطية إمبراطوريات وممالك ويقيم نظماً ويدمر جيوشاً وأمماً ويرسم خرائط سياسية للأطماع والمصالح والنفوذ، فمنهن من باعت الوطن والدين في سبيل حبها للآخر العميل و أخرى اعتنقت ديانة أخرى في سبيل إرضاء حبيبها الجاسوس، ومنهن أيضا من عملت ضد وطنها وضمت أفراد عائلتها والمحيطين بها في دهاليز الجاسوسية أو خانت قدسية زواجها ووطنها في سبيل لذة جنسية مع العدو ... إنهن نساء عاشقات في بحر الجاسوسية . بدأت التحضيرات النهائية لعملية التبادل. فبعد دراسة مستفيضة للقيادات الأمنية بمكتب منظمة التحرير في صيدا حول عملية التبادل، هرعت سيارات الجيب باتجاه كهف «السعرانة». كان الطريق المتعرج الضيق قد نحت أجزاء منه من الجبل، فيستقيم منحدراً أحياناً ثم يلتوي فجأة في صعود والتفاف حول الجبل... ومن بعيد كان الكهف الموحش يبدو كنقطة سوداء في بطن الجبل السامق، وكلما اقتربت السيارات شوهد جنود الحراسة المشددة بأسلحتهم الأوتوماتيكية في حالة تأهب، وكان ذلك يزيد الأمر حساسية واهتماماً، حتى يخال للبعض أن بالمنطقة مفاعلاً نووياً سرياً. وعندما دلف الضابط إلى الكهف، همدت أنفاس أمينة قليلاً وسألت في صوت خفيض: «هل حان وقت الإعدام؟». اقترب منها الضابط أكثر وأكثر، لكي تصلها كل كلماته، وقال: «سنطلق سراحك بعد أيام وستعودين إلى إسرائيل مرة أخرى».ارتعدت أطرافها المقيدة وارتج بدنها كله، وجحظت عيناها الغائرتان في تحفز لما سيقوله الضابط الذي أضاف: «بعد عشرة أيام من الآن ستكونين حرة في إسرائيل، ويجب أن تكوني على يقين من أننا لم نعاقبك ولم نؤذك بقدر ما آذيتنا، فنحن أناس مسالمون، سعدنا بوجودك ذات يوم بيننا، ووثقنا بك بلا حدود على اعتبار أنك عربية مخلصة، وعن حب فتحنا لك قلوبنا وكل أبوابنا الموصدة في وجه الآخرين، وما تسرب إلينا الشك، فتسببت بفعلتك في مقتل عشرات الأبرياء من شبابنا وانخلعت على يديك قلوب أمهات ثكالى فقدن الابن والزوج والبسمة». انهمرت دموع أمينة المفتي، ولم يدر الضابط أهي دموع الحسرة والندم، أم أنها دموع الفرح بنجاتها.وأكمل قائلا: «هذه الأرض التي أنت عليها الآن سيدتي أرض عربية، وتلك الأرض التي ولدت فوق ترابها أرض عربية، وكذلك الأرض التي بعت دينك ووطنك وأهلك لأجلها أيضاً عربية، عربية، مغتصبة، سليبة، ستعود حتماً ذات يوم لأصحابها. ربما يتحقق ذلك بعد جيل أو جيلين أو ثلاثة، أو أقل من ذلك بكثير.. و نحن هنا الآن لنجاهد بدماء أبنائنا، ولن نكف عن الجهاد حتى نموت دونها، وأنت ما جئت إلى هنا سيدتي إلا لقتلنا دونما ذنب بحقك اقترفناه، فلا تظنين أن الأرض التي ستعودين إليها سترحب بك.لكن تأكدي أن في القدس وحيفا ويافا وبيت لحم ونابلس... كل فلسطين ستبصق عليك. كل الأرض، ومع كل خطوة، حتى إن متّ ستلفظك قرفاً في قبرك، وسيأبى دودها الطاهر أن يرعى في جثمانك» . عند ذاك ازداد نحيبها قسوة وعلا نشيجها مع صعود صدرها الضامر وهبوطه، وانعقد لسانها فلم تقو على الكلام لاصطكاك أسنانها ورعشة شفتيها، التي غزت الوجه المتقلص الشاحب. وقال الضابط آمراً جنوده قبلما ينصرف: «فكوا قيود ضيفتنا وقدموا لها الشراب وأشهى الطعام». الستائر الحريرية «كانت كلمات الضابط كالسهام تخترق عقلي وجسدي، فأصابت اتزاني وأطاحت بآمالي وأوهامي وأغرقتني في محيط يموج بالغموض و ينبض بالخوف والعدم، وأوشكت أن أصرخ فيه أن يرحمني ويصمت، فيوقف رشق سهامه في أعضائي التي وهنت ونزحت عنها مسحة القوة، لكنه كان كمدفع رشاش أخرج كل رصاصاته في زخة واحدة... تُرى لماذا جيء به إليّ؟ ألكي يشعرني بحقارتي وجرمي؟ أم ليوقظ بداخلي أحاسيس دفنت منذ زمن؟. كل ما أذكره وقتها أنني فقدت رسالتي التي خلقت لأجلها، وهي أنني لم أعد أصلح لأن أكون أماً، فكيف لامرأة مثلي حبلى بالخيانة أن ترضع طفلها وتحتويه، بينما هي تقتل الأطفال والشباب، وتُموّت أمهاتهم حزناً عليهم وأسى؟ أكنت إذن واهمة إلى حد فقدان العقل والتمييز؟ أكنت أصارع طواحين الهواء كما كان يفعل دون كيشوت؟ أين أنت الآن يا أمي لأفرد ذراعاي حول عنقك وألتصق بصدرك الدافئ الحنون؟ أين أنت يا أبي لتنتشلني من مصيبتي وتنير لي الطريق بالنصح كما كنت تفعل أيام طفولتي وشبابي؟ أين هم إخوتي وكانوا لي ظلالاً وارفة تحميني من لسعة الحياة وسيلها الجارف؟ أين شقيقاتي وخالاتي وعماتي؟ أين ستائر حجرتي الحريرية ومرآتي؟ تُرى أتضم أمي الآن أشيائي وتلعنني، أم أنها تبكي لمأساتي؟ لم يبق لي من شيء سوى الصمت كالموت يقتلني ودمعاتي؟» هكذا أخذت أمينة تحكي لنفسها، فلو أنها اتجهت إلى الكتابة لأصبحت أديبة قديرة. لكن هكذا فعلت بنفسها...!!! وفي مساء الثالث عشر من فبراير بدأت رحلة سفرها الأخير، في سرية تامة. لكن هذه المرة ليس باتجاه فيينا أو إسرائيل، مباشرة بل مرورا بقبرص قبل كل هذا.تقول أمينة في مذكراتها: «دخلت كهف «السعرانة» لأول مرة في الظلام، وغادرته نهار ذلك اليوم في الظلام أيضاً، فقد عصبوا عينيّ خشية إصابتي بالعمى عندما أواجه ضوء الشمس المبهر فجأة. بعد 1651 يوماً في الظلام. يا لهم من أناس طيبي القلب رائعين، أرادوني صحيحة النظر لأرى الفارق الواضح بين الوجوه عندما أغادرهم، وفي بيروت أدخلتني فتاتان نظيفتان الحمام، واستحممت لأول مرة منذ اعتقالي استحماماً كاملاً، ونمت بينهما مكبلة بأحزمة رقيقة من الجلد، وأكلت أطعمة شهية حرمت منها سنوات، وكنت أطلبها بنفسي فيجيئونني بها. وأمام هذا الكرم الرائع طمعت فيما هو أكثر، فصارحت الضابط المكلف بحراستي بأمنية غالية إلى نفسي، وهي أن أحادث أمي تليفونياً في عمان، ولما أخبرني الضابط بأن طلبي رفض بحسم أيقنت بأنني لن أسمع صوتها أبداً طالما كنت في إسرائيل!!. أحسست بأنني سأكون في سجن كبير طوال حياتي، فصرخت بالقول: «لا أريد إسرائيل مرات ومرات.. أعدموني هنا أو أرجعوني إلى كهف «السعرانة». أنا أكره إسرائيل..أكرهها». وهنا أجابها الضابط بهدوء تام : «إسرائيل هي وطنك الآن سيدتي»، فقالت: «الإعدام أهون علي. لماذا لم تعدموني؟ أتخافون إسرائيل!!!»، فرد الضابط في ثقة: «نحن أقوى من إسرائيل. لذلك أرسلتك للتجسس علينا.ونحن هنا نبادل امرأة خائنة برجلين من أبطالنا وفدائيينا وبدأت بالصراخ والعويل: «أعدموني، أعدموني...»، ليتواتر صوتها مع جرعات المخدر الذي أعطاها إياه الطبيب المرافق للوفد الفلسطيني، وما عاد يسمع له صدى.لكن رائحة النيكوتين المنبعث من دخان سيجارة أحد الضباط المرافقين في الطائرة المتوجهة إلى قبرص أفاقت أمينة. سألها الضابط «هل أشعل لك واحدة؟»، فصمتت لحظة ثم سألته «ما نوعها؟»، فأجابها الضابط بأنها تونسية تسمى «سفاير الصفاء». لم يعجبها ذلك وكأنها تمنت لو أنها من نوع آخر، قبل أن تضيف قائلة: «هل يدخن أحدكم المارلبورو؟»، وهنا رد الضابط في حسم «نحن نكره الأمريكيين وبضاعتهم يا سيدتي»، فاستسلمت للسيجارة التونسية بعد أن أشعلها لها الضابط الفلسطيني، لينشغل بعد ذلك مع الضباط الآخرين في دراسة الخطوات النهائية لعملية التبادل التي شرحها لهم ممثل الصليب الأحمر. كان مطار لارنكا أشبه بقاعدة عسكرية ذلك اليوم، بل أشبه بمدينة ملاه عائمة مضيئة. فقد أعطيت الأوامر بوقف الملاحة الجوية فيه. و كانت عشرات من المدرعات والدبابات تحاصره من كافة الجوانب، ومئات الجنود الذين انتشروا تحسبا لأي طارئ. بدا الأمر كأنه حشد لحرب مرتقبة وتربص بعدو غاشم ينوي غزو الجزيرة، فالقبارصة كانوا يريدون أن تتم العملية دون أخطاء، وإن حدث ذلك سيكلفهم الكثير أمام جحافل المجتمع الدولي. وما إن حطت الطائرة حتى اتجهت إليها عدة سيارات عسكرية مدرعة مليئة بقوات الكوماندو، الذين أحاطوا بها من كل جانب . وهنا أعطيت الأوامر للطيار اللبناني بفتح باب الطائرة الأيسر لصعود الضباط الأتراك وممثل الصليب الأحمر، فكشف عن وجهها وأخذ يقارنها بالصورة التي يحملها. وبعد تأكده من شخصيتها أومأ برأسه للضباط الأتراك الذين حملوها (كانت مغمى عليها من هول الصدمة) واتجهوا بها إلى إحدى حظائر الطائرات التي تحرسها عشر مدرعات ومائة وسبعون مظليا. أما الضباط الفلسطينيون فقد سلموا للقبارصة رشاشاتهم الكلاشينكوف، وأخذوا مع طاقم الطائرة إلى إحدى القاعات الداخلية بالمطار تحت الحراسة المشددة. كان على الجميع حبس أنفاسه مدة ساعة وربع الساعة، في انتظار هبوط الطائرة الإسرائيلية «العال» التي كانت ما تزال رابضة على أرض مطار اللد الإسرائيلي، وجاهزة للإقلاع فوراً بالأسيرين حال التأكد من وصول أمينة المفتي إلى قبرص. لقد كان للفارق الزمني بين هبوط الطائرتين دلالات أمنية محسوبة جيداً وبعمق شديد، وهذا الأمر كان قد تم الاتفاق عليه مع الطرفين، والغرض منه طمأنتهما على توفر مساحة آمنة تخدم هدفيهما، خاصة أن هذه العملية هي الأولى من نوعها بين الطرفين. يتبع