يحار القارئ كيف يتعامل مع أحدث كتب المفكر المغربي عبد الله العروي والذي يحمل عنوانا إشكاليا ومضللا «السنة والإصلاح» والصادر عن المركز الثقافي العربي، فصاحبه يتخذ لموضوعه قالبا سجاليا هو قالب الترسل، المعروف في الكتابة العربية القديمة، حيث يبتكر الحل الشكلي من أجل مناظرة واسعة بين مخاطب يملك الفهم والحقيقة، ومرسل إليه غير مكترث وغير فاهم للحقيقة التي يحملها المخاطب أو الكاتب. ننشر هنا فقرات من الكتاب باتفاق مع ناشر الدكتور عبد الله العروي، الأستاذ بسام كردي مدير المركز الثقافي العربي لا أنسى الغرض من هذه المكاتبة، أيتها السائلة. وهو أن تستعدّي لقراءة متمعّنة لكتابنا. لا بد أن تستعدّي بعناية تليق بما استغرق من وقت تنزيله وجمعه. قبل القرآن عليك أن تتعرّفي على النبي الذي عاش ثُلُثَي حياته الأرضية عيشة عادية متواضعة. وقبل النبي عليك أن تتعرّفي على العرب، المخاطبين بالرسالة، والعالم الذي أحاط بهم والذي شاركوا بقدرٍ ما في أحداثه طوال قرون، إن لم يكن آلاف السنين. والعالم المذكور هو حوض المتوسط الشرقي وهو جزء من محيط أوسع كان مسرح تاريخ الحقبة. نفترض عادة أن الأول ظلّ منعزلا أو قليل الاتصال بالثاني. يكفي أن يتمّ كشف أثري واحد يفيد العكس لتنقلب كل تأويلاتنا وافتراضاتنا رأسا على عقب. يجب علينا إذن أن نحترس وقبل أن نُقدم على أي حكم أن نقول، ولو ضمنياً، إن بقيت معلوماتنا على حالها. لماذا هذا التهيّب، هذه الخشية، مما قد تُسفر عنه الحفريات؟ لأن ما يبدو لنا اليوم عجيباً، مذهلاً، باهراً قد يتحوّل بين ليلة وضحاها إلى أمر تافه مبتذل. لا نزال نفكّر بفكر أجدادنا ظنّاً منا أن أُفقنا المعرفي محفوظ لا يتغير. صحيح أن الواجب هو أن نضع أنفسنا موضعهم حتى نتفهّم أحكامهم، لكن ليس علينا أن نصادق على كل ما قالوه واستنتجوه. نعجب اليوم من شيء يخصهم، نحار في شأن شيء ثانٍ، نشمئزّ من أمر ثالث، فلنكن على وعي من أن انفعالاتنا هذه مؤقّتة، مسوّرة بشروط. ما نعرفه عن العالم المتوسطي، عالمنا التاريخي كثير، لكن ما نجهل عنه أكثر. أي دور لعبه العرب فيه؟ نحرّر في هذا الباب نصف صفحة، إذ هذا كل ما نعلم منه علم اليقين، ثم نبادر بمعالجة موضوعنا الرئيسي، أي ظهور الإسلام. الواقع هو أن ما أثبتنا في هذا الحيّز الضيق هو أصل ومستند كل أحكامنا وعقائدنا. لا نجد للعرب حضوراً يُذكر في المجال اليوناني الكلاسيكي. هذا صحيح، لكن للفرس حضور وكذلك للساميين الغربيين. وللشعبين معاً علاقات وثيقة وموثّقة بالعرب، بمن نسمّيهم نحن العرب، إذ كانوا المخاطبين بالرسالة. حضورهم في «العهد القديم»، أي في تاريخ العبرانيين، واضح منذ الفصول الأولى. وحضورهم أوضح في الإمبراطورية الرومانية، سيما بعد أن انتقل إلى الشرق مركز الثقل فيها. يُجمع الدارسون اليوم على أن بلاد الشام قد عُرّبت، بشرياًّ وثقافيّاً، ثلاثة قرون قبل الإسلام. أوَلا يجوز أن تكون عمليةُ التعريب والاستعراب قد تمّت في تاريخ أقدم؟ صحيح أننا، باستثناء بعض الفصول المتميّزة القليلة، لانرى العرب في هذا التاريخ إلا كأشباح، يلعبون دور الشخصية الباهتة، الرفيق العابر، من يقطع خشبة المسرح، يقول كلمته ثم يختفي. أمر طبيعي، إذ ليسوا بدواً رحَّلاً؟ هذا ما يقال عادة. الرجال الرحل ماذا تعني كلمة رحّال في حال من ننعتهم نحن بالعرب؟ يملكون وطناً محدّداً، لا يشاركهم فيه أحد، يحاربون ضمن الجيش الروماني كسلاح متخصّص (سلاح الخيالة)، يؤمّنون الطرق، يجلبون الموادّ النادرة، يزوّدون غيرهم بأخبار البلاد النائية؟ أوَلم يُشبّهوا منذ القدم بالملاحين؟ إنهم «الوسطاء» بحق وامتياز. وكلما تساءل الدارسون عن عدم الملاءمة بين الثقافة المادية والحضارة الفكرية والروحية، كانوا هم المعنيين بالمسألة قبل غيرهم. لغتُهم، عاداتهم، نظامهم، مروءتهم، كل ذلك أكثر ثراءً وتفنّناً مما تؤهلهم له الطبيعة المحيطة بهم، أحوالُهم كلها تدعو إلى الدهشة وتتطلب المزيد من البحث والاستقصاء. من أين جاؤوا؟ ما موطنهم الأصلي؟ ما سرّ إعرابهم، بلاغتهم؟ لغتهم المبينة المتينة كالمنسوخة عن مكتوب حتى قبل أن تكتب؟ شعرهم؟ حرفهم؟ أخلاقهم؟ لا شيء من هذا مفهوم بالقدر الكافي حتى يومنا هذا رغم جهود أجيال متوالية من الباحثين، قُدماء ومُحدثين، أصلاء ودخلاء، محبّذين ومستنكرين. وإن كان وضع العرب لا يزال غامضا، فظاهرة القرآن أكثر غموضاً. كلامنا ليس على النبي العربي والصحراء، بل على رسالة الإسلام والمحيط التاريخي الذي هو، كما قلنا آنفاً، العهد الهلستيني حيث تتداخل الثقافات وحيث كثيرا ما يُتقِن المرء المثقف لغة جاره. في تلك الفترة كانت الديمقراطية اليونانية قد انهارت منذ عهد طويل، أو بالأحرى انتحرت على قول بعض المؤرخين. لم يفكّر اسكندر المقدوني ولو لحظة عابرة في التوجه إلى الغرب، همّه الوحيد كان أن يطأ في أقرب وقت أرض فارس ويتوّج بها قبل التأهب لغزو أقصى الهند. كما انهارت الجمهورية الرومانية، أو انتحرت هي الأخرى، حسب ما يراه عدد من الدارسين. لم يصمد الرومان كما لم يصمد قبلهم اليونان لإغراء الشرق. خاطر يوليس قيصر بحياته ليكون ملك الملوك. منافسة روحية عند ظهور الإسلام إذن كان الشرق، في حلبة المتوسط، قد حسم لصالحه المنافسة الروحية بينه وبين الغرب، حسب الاستقطاب الذي اخترعه اليونانيون لأغراض تعبوية وطنية منذ كتاب هيرودوت. انتهى الغرب المفترض بالذوبان في الشرق الأزلي. ماذا بقي من ثقافة الغرب؟ نوع من السلوك الجماعي. ما يُعرف عادة بالآداب الهلستينية أو بالإنسية اليونانية الرومانية. لم تعد تعني سوى أسلوب في التربية والتهذيب، طريقة في تلقين فنون القول. يروّج لهذه البيداغوجية ويشتهر بها الخطباء وأمراء البيان. وإذ نلاحظ أنّ العديد من هؤلاء، على رأسهم أغسطين الأفريقي، انتهوا باعتناق النصرانية، ندرك في الحين أن الأخلاق التي يدعون إليها، ليست سوى جزء من كل، فصل من فصول كتاب ضخم. يمكن الحفاظ عليها وتوظيفها في خدمة نظرة جديدة للكون والإنسان والتاريخ. وإذ نلاحظ كذلك أنّ الكنيسة المسيحية انتقت من الثقافة الهلستينية أفلاطون وشيشرو- قبل أن تضمّ إليهما، بتأثير من التأويل العربي، أرسطو وإعطائه مركز الصدارة- نكتشف بالمناسبة عند هؤلاء المفكّرين الثلاثة كثيرا من الموضوعات التي تعتبر حكراً على الفكر الثيولوجي. وعلى العموم نسجّل في الثقافة الهلستينية، في جوانبها السياسية والاجتماعية والفكرية والفنية، ميلاً واضحاً نحو الشرق، انجذاباً متزايداً نحو موطن الثروة والذوق والحذق والبراعة. فوق كل هذا، وربّما بسببه، موطن التناسق والتناغم، التبسيط والتيسير. في الشرق يسهل الانتقال من التعدّد إلى الوحدة، من التناثر إلى الانتظام، من التنوع والاختلاف إلى التماثل والائتلاف، من فوضى الغوغاء أو تناحر الأشراف إلى الانقياد لإرادة الفرد المتسلط. يأتي الإسلام في خاتمة هذا التطور العام، كما جاءت تجربة إبراهيم الخليل خاتمةً لتطور مماثل أثناء حقبة طويلة سابقة. لا حاجة لنا إلى القول إن ما انعقد بفعل التاريخ هنا، في هذا الزمن وهذا المكان، قد ينحلّ، بفعل التاريخ كذلك، لاحقاً وفي بقعة أخرى. لكن ما حصل حصل، ولا يحقّ لأحد أن يدّعي، بغرض النفي والإنكار، أن ما أُنجِز وتمّ، في أرض الجزيرة وفي القرن السادس الميلادي/الأول الهجري، كان بالمصادفة أو كان نتيجة عناد أثيم. عاش شعب النبي طوال ألف سنة يتذكّر إبراهيم وتجربته. ثم رافق الإمبراطورية الرومانية طوال قرون، في عهدَيْها الوثني والمسيحي، تارةً داخل الحدود وتارةً على الهامش. عاش النبي ثُلُثَي حياته الأرضية بين هذا الشعب المعتاد على نقل البضائع وتبادل الأفكار. لم يكن أبداً متطفّلاً، دخيلاً على تاريخ الشعوب القديمة، على اليهود والنصارى، على المجوس وعلى الوثنيين. نشأ وتربّى بينهم. بل هو، إلى حدّ ما، واحد منهم قبل أن يتبرأ منهم ويعتزلهم. لا يجب هنا الكلام على الاقتباس والتأثر بقدر ما يجب الكلام على التأويل والاختبار. يجب الانطلاق، في حدود ما نعلمه اليوم، والذي قد يتغيّر رأسا على عقب، غداً أو بعد غد، إثر كشف أثري واحد، من ثقافة مشاعة دامت واستقرّت طوال ألف سنة، ثقافةٍ شفوية في الغالب، تدوَّن من حين لآخر أجزاءٌ منها، ثقافةٍ تنعكس فيها على درجات متفاوتة من الدقة والوضوح الثقافة الهلستينية بعد أن اتّجهت اتجاهاً لا رجعة فيه نحو التوحيد في مجال العقيدة، التعميم والقطع في مجال الفكر، الإطلاق والاستبداد في مجال السياسة. في هذا الإطار، بالنسبة لهذا التوجّه التاريخي العام، يبدو لنا ضرورةً وبالاستتباع، أن الإسلام ليس سوى «قراءة» يقوم بها شعب بعينه، وذلك قبل أن تدوّن تلك القراءة الخاصة المتميّزة في نصّ مضبوط. هذه ملاحظة تمهيدية تفرِض علينا منذ البداية أن نفهم من كلمة قرآن ثلاثة معانٍ على الأقل. منطق هذه القراءة الخاصّة؟ مبحث سهل نسبياً لا يستوجب سوى تفكيك وتركيب ما جاء في النص. الحاجة الكامنة وراءها؟ الهمّ الذي يقود إليها؟ مبحث أصعب طالما لم يحصل كشف أثري أو لغوي يقلب نظرتنا إلى الماضي والحاضر. بلاد العرب شاسعة ومتنوعة. لا تزال في بعض جهاتها وإلى يومنا هذا مجهولة عصيّة على المستكشفين والسيّاح، رغم وسائل النقل الحديثة من سيارات آلية وطائرات سابقة للصوت. والعرب، كأرضهم، شعب متنوع، هناك عرب الجنوب على اتصال مستمر بإفريقيا، وهناك عرب الشرق المنخرطين في السياسة الفارسية، وهناك عرب الوسط المنعزلين إن لم نقل المتوحشين، وأخيرا هناك عرب الشمال الغربي، محط اهتمامنا، والذين ارتبطوا منذ قرون بعلاقات وثيقة ومنتظمة بمؤسسي الحضارة القديمة في الشام ومصر. هؤلاء هم شعب النبي. يتميزون عن إخوانهم، يعرفون ذلك ويصرحون به. هل عاشوا دائما في الوطن الذي عرفوا به؟ لا أحد يعلم ذلك على وجه الدقة. ما نعرفه حقا هو أنهم، تحت اسمهم المشهور أو تحت أسماء أخرى، ينتمون إلى جماعة أوسع تتعداهم إلى غيرهم. ما نعرفه نحن عن التاريخ القديم، إما عبر الرواية التقليدية وإما بواسطة الكشوف الأثرية الحديثة، كان متاحا لهؤلاء العرب، وإن كان في شكل مختزل ومحرف قليلا أو كثيرا. آثار الماضي كانت بادية لأنظارهم، يمرون بها كلما حلوا وارتحلوا. قد يمَّحي بعضها أو يختفي تدريجيا عن الرؤية، لكن الكل يظل مرسوما في الذهن عبر اللغة والقصص، الأمثال والأعراف.. التلال، قطع من الرمل سارية، حسب قول الشاعر المعاصر. إزاء هذا الشعب التاريخي العريق نقف اليوم موقف علماء القرن التاسع عشر إزاء العبرانيين. إلى غاية القرن قبل الماضي كان الدارسون يعتمدون على التوراة وكتب التفسير من جهة وعلى حاسّتهم النقدية من جهة ثانية إذ لم يكونوا يملكون أدلّة مادية ملموسة. رغم هذا النقص، بدأ الروّاد منذ عهد النهضة يشتغلون على خلفيات النصّ، ما يوحي به من دون قصد، عندما يتكرر أو يتردّد أو يستتثني أو يستنكر أو يحاجّ، إلخ. سلك بعض متكلّمينا مبكّرا المسلك نفسه في تعاملهم مع القرآن. حتى وإن بدا لنا أنهم يفعلون ذلك بدون انتظام، بدون منهجية صارمة وثابتة، فإنها كانت مبادرة طيبة يجب إحياؤها اليوم واستثمارها.