إلى إيزنزارن هناك أساليب كثيرة لطرح سؤال الهوية أوالتعبير عنها أوالنبش عليها، خصوصا هوية مشتركة متجذرة قوية ومتأصلة كهوية المغاربة الغنية باختلافها واتساع تجلياتها بالنظر إلى غنى البلد وثرائه اللغوي والقبلي وتنوعه الجغرافي وتعاقب مختلف الحضارات عليه حتى صار خصبا تزخر أراضيه بلهجات وثقافات وروائح وألوان من عبق كل من مروا من هنا، أو أحبوا هاته الديار فاستقروا بها. ولأن العديد من السياسيين لا يعنيهم كثيرا سؤال الهوية، فقد حاولوا، بالسلم حينا وبالعنف دوما، مسح كل تنوع ثقافي وحضاري ولغوي يشكل هوية الوطن، وفرضوا على كل المغاربة هوية واحدة، هوية رسمية شكلها الإعلام والسلطة وحاول فرضها وترسيخها بشتى الطرق وبكثير من الظلم. ولأن هؤلاء لم يفهموا يوما معنى الهوية ولا رمزيتها ولا جدواها، ولأنهم لم يسافروا عبر أرجاء هذا الوطن ليستنشقوها عطورا ويسمعوها أنغاما ويروها رموزا وينشدوها أشعارا ويتذوقوها أطباقا، فإنهم للأسف «طبخوا» لنا هوية داخل مكاتبهم الواسعة، ليست على مقاسنا ولا بمقامنا ولا بمزاجنا ولا بقيمة هذا الوطن الكبير الذي تتسع له قلوبنا وكل اختلافاتنا. هناك العديد من الدول التي لم تتكون إلا قبل سنين تبحث جاهدة عن هوية، حتى إنك تشعر بالشفقة تجاهها حينما تحاول إقناعك بتاريخها وأصولها وحضارتها ومجدها، أما نحن فهويتنا منحوتة على أسوار مدننا، على مآثرنا، في لغاتنا وأنغامنا وكتبنا ومخطوطاتنا، في كل تفاصيل وجودنا وحياتنا، في هذا التنوع الاستثنائي الذي يشكل خصوصية المجتمع المغربي والذي يثير حسد الجيران والزوار. ما لم يفهمه أيضا أولئك الذين حاولوا طمس هوية المغاربة، أن الهوية لا تمحى ولا تمسح ولا تموت أبدا، قد تخبو وتسكن لكن إلى حين.. لأن للهوية روحا وجذورا ونفسا ودماء. سؤال الهوية جال بخاطري وأنا أحضر فعاليات مهرجان «تيميتار» حيث فنانون أمازيغ يحتفون بموسيقى العالم وهمست لنفسي بأن الزمن وحده كفيل دائما بإعطاء الأجوبة وبجبر الخواطر والرضوخ للحقيقة، والحقيقة الوحيدة المتبقية بعد كل هاته السنين هي أن هوية المغرب هي هذا المزيج العذب من الريف إلى الصحراء وأن لا علَم للبلاد إلا ذاك الأحمر الذي تتوسطه نجمة خضراء. لقد كان افتتاح «تيميتار» بعودة قوية لمجموعة «إيزنزارن» بعد منفى طويل.. داخل الوطن.. سنين طويلة أليمة من الفراق بين مجموعة تشكل ظاهرة من ظواهر الفن المغربي وجمهورها المقدر بمئات الآلاف عبر العالم، وقصة ألم وخيبة وصدمات دفعت بنجمها عبد الهادي إيكوت إلى الاعتزال القصري، فانزوى بعيدا عن الفن والحياة وسكن غارا على مشارف البحر عله ينعم بسكينة الروح. وبعد محاولات كثيرة، استطاع ابراهيم المزند، المدير الفني ل«تيميتار» ورجل الفن والثقافة والأوزان والرموز، أن يعيده رفقة مجموعته، بعد عشرين سنة من الغياب، إلى المنصة أمام بحر آخر.. بحر من المعجبين لا حدود له. غنى روائع «إيزنزارن» وغنينا معه رغم أننا لا نفهم تلك المعاني القوية التي تحملها أغانيه والتي دفع ثمنها غاليا لسنين، لكنهم ربحوا قضية، وربحوا حبا لا يوصف وربحوا المعركة بعودة جميلة لم تكن منتظرة. «إيزنزارن» قصيدة حب جريحة، قصة شبان أحبوا وطنهم حد المنفى.. فغنوا له وعنه.. بكوا منه واشتكوا إليه.. جبر الضرر ليس مبلغا ماليا ولا منصب شغل.. جبر الضرر روح تحيا وجرح يلتئم رغم الذكرى.. لقد غنوا كأنهم لم يتوقفوا يوما عن الغناء، عزفوا وأنشدوا أشعارهم وحكاياهم وقضايانا الإنسانية التي لا تعرف حدودا للغة ولا للزمان ولا للمكان.. الجميل أن صغارا كثر حضروا، لا يعرفون عن المجموعة ورائدها سوى صوت ينبعث من أشرطة وما يرويه آباؤهم عن مجموعة اختارت الظل في عز العطاء وعرفت الفقر في عز الشهرة، أطفال بأمل جديد ورؤية أخرى لمستقبل بهوية مغربية واحدة لا تكتمل إلا بالتعدد.