سألني بعض الصحفيين منذ أيام عما يخلفه عندي عملي بواشنطن من انطباعات عن الولاياتالمتحدة، فوجدتني أجيب بأن انطباعي عنها هو أنها أضعف مما يظن أكثر الناس في بلادنا، وأنها لا تسيطر على أقدارنا ولا تملك أمورنا كما تحب أن توحي لنا أو يوحي لنا حلفاؤها. وإن ضعف الولاياتالمتحدة هذا ليس بدعا في التاريخ، فكل إمبراطورية تبالغ في تمددها واتساعها يستنزفها تضخمها، ويهزمها انتصارها. وقد كان الرئيس السابق للولايات المتحدة أعلن حربا على الإرهاب، تحولت عمليا إلى بالوعة للمال والرجال ترسل بهم الإدارة الأمريكية إلى ساحات قتال معلنة وسرية تمتد في عرض آسيا وشمال إفريقيا. واليوم بعد إقالة قائد القوات الأمريكية في أفغانستان وتوقيع اتفاقية تقضي بانسحاب القوات الأمريكية من العراق، بيَّن الصبح لذي عينين أن الإمبراطورية لم تنتصر على رعاة الجبال. ولا بد أن يصيب وَهَنُ السيد تابعَه فيهِن مثله، ولا بد أن يضعُف حلفاء الولاياتالمتحدة بضعفها، وما نراه من تقارب إيراني-عراقي ولبناني-سوري ومحادثات بين الحكومة الأفغانية وطالبان دليل على ذلك. إن دخول قوة عظمى إلى إقليم ما يغيره، وخروجها منه يغيره، وهذا ما كان بدخول الولاياتالمتحدة إلى العراق وخروجها منه. فالإقليم كان مستقطبا بعد غزو العراق مباشرة إلى معسكرين، معتدلين وممانعين، وكان يبدو أن المعسكرين متماسكان، بل كان الظاهر للناس أن معسكر الاعتدال أقوى ظهرا، لأن ظهره الولاياتالمتحدةالأمريكية، وهي كانت مندفعة إلى غايتها بلا تردد، بينما كانت إيران ظهر الممانعين، وكانت تبدي ترددا بين مناوءة الولاياتالمتحدة في الشام ومهادنتها في العراق، وكان يبدو أن الولاياتالمتحدة تحيط إيران من الجهات الأربع، فقواتها في أفغانستان وباكستان والعراق والخليج العربي، أما تركيا فعضو في حلف الناتو، وبعض دول آسيا الوسطى فيها قواعد أمريكية، وروسيا منكفئة بعد اضمحلال نفوذها في البلقان أواخر التسعينيات، ثم بعد الثورات الملونة وأثناءها في شرق أوربا والقوقاز وتمدد الناتو نحوهما. أما اليوم، وبفضل المقاومة العراقية، وفشل الولاياتالمتحدةالأمريكية في أفغانستان، فإن الأوضاع تكاد تنقلب رأسا على عقب. ويبدو أن الولاياتالمتحدة وحلفاءها قد أصبحوا هم المحاصرين في المنطقة. فخروجهم من العراق يعني عمليا خروج البلد من حلف المعتدلين. فلإيران علاقات مميزة مع كل من الحكومة والمعارضة في العراق. ولا تجد المملكة العربية السعودية، الجار عظيم القدر والنفوذ، وغيرها من القلقين من هذا التمدد إلا العرب السنة لتجنيدهم ضده، ولكن المشكلة هي أن تقوية العرب السنة تعني تسليح قاعدة ديمغرافية هي أيضا الحاضنة لكثير من جماعات المقاومة العراقية، بالإضافة إلى جماعات أخرى سلفية لا تريد الولاياتالمتحدة والمملكة العربية السعودية مساندتها بحال من الأحوال. لذلك، فإن هناك قيودا على قدرة معسكر الاعتدال على أن ينافس إيران على العراق. والطريف أن الأسباب التي منعت الولاياتالمتحدة وبعض المعتدلين العرب من مساندة السنة العراقيين مساندة كاملة هي نفسها التي منعت الولاياتالمتحدة من دعم الشيعة العراقيين دعما كاملا، حيث إن منهم من كان معارضا ومقاوما ومشتبكا مع الاحتلال كذلك. والأطرف أن العلاقات الاجتماعية في العراق ربما جعلت رجلا يعمل في ميليشيا أو جهاز موال للولايات المتحدة، بينما أخوه من أمه وأبيه منضم إلى جماعة مقاومة، تستوي في ذلك طوائف البلد جميعا. ففي كل طائفة في العراق مسالمون ومقاومون، وهم يتبادلون الأدوار، فمن يسالم اليوم قد يعارض غدا، مما منع الولاياتالمتحدةالأمريكية وحلفاءها من أن يذهبوا في دعم طائفة ما إلى النهاية. لقد أدرك المحتل بديهية يعرفها الناس في بلادنا من القدم، وهي أنه لا توجد في العراق، وما أدراك ما العراق، طائفة خالصة للغزاة تأمنهم ويأمنونها. أما تركيا، فهي لا تريد من العراق أكثر من تأمين الشمال الكردي، وهو أمر تريده إيران كذلك، فلن تنافس تركيا إيران على العراق أيضا. ثم إن سوء العلاقة بين تركيا وإسرائيل يقربها من إيران ولا يبعدها. هذا يعني عمليا أن الممانعين أصبحوا يتحكمون في قطعة من الأرض تمتد من وسط آسيا إلى البحر المتوسط، إيران والعراق وسوريا ولبنان، وأن القوتين الكبريين إلى الشمال والجنوب من هذه الدول، تركيا والمملكة العربية السعودية، لن تضغطا عليهم ضغطا يذكر لا في العراق ولا في الشام مقابل هدوء كل من كردستان والخليج واليمن. ثم الأردن، وهو وإن كان محبا للسلام بات يبتعد شيئا فشيئا عن إسرائيل، لأن هذه الأخيرة، متشجعة بلين المواقف الرسمية الفلسطينية، بدأت تظهر عليها علامات الطمع في الضفة الغربية كلها، وحل القضية الفلسطينية على حساب الأردن. وقد وصل الأمر بالحكومة الإسرائيلية إلى إدراج مشروع الوطن البديل على جدول أعمال الكنيست، وإلى إصدار قرار بترحيل عشرة آلاف فلسطيني من الضفة الغربية إلى الأردن. والوطن البديل، كما يعلم القارئ، هو مشروع إسرائيلي يدعو إلى أن تقوم الدولة الفلسطينية في الأردن لا في الضفة الغربية. وقد أصدرت جماعة من المتقاعدين العسكريين بيانا ترفض فيه مشروع الوطن البديل، وأدلى الملك عبد الله الثانى بأكثر من تصريح في هذا الاتجاه، ثم الناطق باسم ديوانه، ثم الناطق باسم خارجيته، واستخدمت في هذه التصريحات تعبيرات لم تسمع في الأردن منذ زمن بعيد، كالخيار العسكري. إن وضع الأردن الجغرافي والديمغرافي، الذي يفرض عليه أن يكون جسرا في حال السلم وعازلا لمنع وقوع الحروب، يفرض عليه في حال وقعت الحرب، فعلا، الميل مع الجانب العربي، ذلك أن صغر حجم البلد يمنعه من أن يكون جزءا من حلف معاد لإسرائيل في حال السلم، لأنه يكون عرضة أكثر من غيره للعدوان، وستفضل إسرائيل خوض أي حرب على الجبهة الشرقية في أراضي الأردن لا فلسطين، إلا أن الحرب لو قامت فعلا، فإن الأردن لا يملك إلا أن يكون مع الأطراف العربية لأن أولوية إسرائيل تكون في حماية نفسها لا في حمايته، وهي ستتخلى عنه أثناء الحرب أو بعدها. وعليه، ففي عام سبعة وستين، وحتى في عام واحد وتسعين، وقف الأردن مع الجانب المعادي للولايات المتحدة وإسرائيل على الرغم من سياسته المحبة للسلام، وكان موقفه في الحالتين ضرورة بقاء. إذن، فالحلف الذي كان مكونا من إيران وسوريا، أصبح مرشحا لضم العراق ولبنان، ولا يعارضه الأردن والسعودية وتركيا بنفس القدر الذي كانت تعارضه به قبل خمسة أعوام أو ستة. خسرت الولاياتالمتحدة المشرق كله، وخسرته وهي تحتله، بل ربما خسرته لأنها تحتله. وحتى لو لم يدم عجز الولاياتالمتحدة هذا، فقد ظهر لنا أنه ممكن، ممكن لفقراء المدن ورعاة الجبال أن يمنعوا أكبر إمبراطورية في التاريخ من أن تحصل على ما تريده. إن المعرفة بذلك، في حد ذاتها، عنصر من عناصر القوة. إن الدول العظمى تعيش على سمعتها وخوف الناس منها أكثر من قدراتها المادية على القتل. فالإمبراطور حين يقتل إنما يقصد الإخافة أكثر من الإبادة، فإن تعداها إلى أن يظن ضحاياه أنهم يبادون فإنهم لا يخافونه بعد، وحين يكفون عن خوفهم لا يعود الإمبراطور إمبراطورا بل رجلا من الناس. إن أكثر من نصف قوة الغزاة تأتي من خوفنا منهم. عسى أن يسمع المتنفذون في مصر ذلك، فإنه لم يبق من كبيرات دول المشرق غيرها، فإن قررت مواجهة إسرائيل أيضا فقد اقترب الفرج.